بلال الطيب
في تاريخ «الإمامة الزيدية» المُظلم، ثمة جرائم حرب شنيعة سُجلت في حق مُناهضيهم، تباهى مؤرخيهم بارتكابها، وكان أكثرهم إسفافاً المؤرخ عبدالكريم مُطهر الذي أرخ لحروب الإمام يحيى ضد اليمنيين، وكان كثيراً ما يتحدث عن نهب المُتفيدين لممتلكات الرعية، وطردهم من أراضيهم، وحرقهم، وتدميرهم لمنازلهم، وقد تبدت أشنع تلك التوصيفات أثناء مواجهات صعفان، حيث أطلق «مطهر» ليراعه العنان، أوجعنا كثيراً بذكره لتفاصيل مأساوية تكررت كثيراً في «كتيبة الحكمة»، كتابه الذي ليس له من اسمه نصيب!!.
انتهت مواجهات صعفان الأولى – كما سبق وألمحنا – بدون نصرٍ يذكر، لا لمحمد الإدريسي، ولا للإمام يحيى، تمركزت قوات الأخير في «الجمجمة» و«الطرواح»، و«القرادع»، وجميعها مناطق تابعة لـ «بني سعد»، فيما حاول الأهالي المطرودين سلفاً من مناطقهم استعادتها، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وما زال أهل البلاد يوالون الغزو ليلاً على المراتب، والجند الإمامي يضع الغوائل لهم في طرقهم التي يأتون منها، فلا يشعرون بعد توسطهم إلا بالرمي عليهم من أمامهم ومن خلفهم».
توالت بعد ذلك الحشود «الإدريسية» لمُناصرة الأهالي، وتعددت محطاتهم من «الحمرة» إلى «عُبال»، لتأتي الأوامر بتعيين عبدالله الوزير قائداً عاماً للقوات الإمامية المُرابطة هناك، والتي وصل عددها إلى «3,000» مُقاتل، استقر الأخير في جبل «المشرقي»، وإليه توافد باقي القادة، واتفقوا على الهجوم خلال يوم واحد «فبراير 1920م»، لتشتعل المواجهات من «سمهر» إلى «المرقوع»، وكانت سجالاً.
من جانبه ذكر الرحالة نزيه مؤيد العظم أنَّ أشهر المعارك حدثت في منطقة «الجرواح»، وأضاف: «كان النصر تارة للزيود، وطوراً للشوافع، وقد تجلى هنا مقدار تأثير طبيعة الأراضي في المُحاربين، فالزيود رجال الإمام من أهل الجبال، والشوافع من أهل السهول، فكان النصر في الجبال دائماً حليف الزيود، وكان النصر في تهامة غالباً حليف الشوافع».
وأردف: «وقد أدرك كل من الفريقين المُتحاربين نقطة الضعف في خصمه، فكان الزيود أحياناً يتقهقرون أمام الشوافع في أسفل جبل صعفان، ويفسحون لهم المجال للتوغل فيه، ثم يحملون عليهم ويقتلونهم على بكرة أبيهم، وهكذا كان الحال مع الشوافع، فكثيراً ما أفسحوا المجال للزيود في تهامة، وتغاضوا عنهم إلى وقت الظهر، أي إلى وقت اشتداد الحر، عندئذ يهاجمونهم، وفي أغلب الأحيان ينتصرون عليهم».
فجأة وبدون سابق إنذار، وبعد يومين من المواجهات، انهارت معنويات القوات الإمامية، لتحقق قوات «الإدريسي» انتصارات سريعة ولافتة، وعن ذلك قال «مُطهر»: «تقدم جيش الضال الذين في الحمرة والمقفل وفيهم الشقي علي دحان الأحمر، وجَمعٌ من ألفاف حاشد، وغيرهم، وبنو سعد الباقون على فرارهم، وقصدوا مراتب جند الإمام، فلم يثبت قدامهم أهل حراز وبنو الخياط، بل انكشفوا عنهم بدون ضرورة، وارتفعوا عن بني سعد إلى بيت المشرقي»، ولم يُغنِ وصول «ابن الوزير» إلى الأخيرة، ومعه أحد المدافع عن المنهزمين شيئا.
وختم المؤرخ مطهر حديثة عن تلك الملحمة قائلاً: «وحصل من التخاذل والتسابق إلى الفرار مالم يكن في الحسبان، ولم يظهر لذلك سبب سوى ما يُظن من إعجاب النفس الأمارة بالكثرة، وما النصر إلا من عند الله، ولا حول ولا قوة إلا به، وانقشع الجيش اللهام إلى صعفان، وأخلوا جميع تلك المراتب في أسرع آن، والله المُستعان».
أذن الإمام يحيى بعد ذلك لعبدالله الوزير بالتوجه إلى ذمار، وأذن من قبل لباقي القادة بالعودة إلى الديار، جاعلاً على المنطقة عباس بن علي، ليتوجه في تلك الأثناء الشيخ عبدالله بشر – أحد مشايخ صعفان – إلى صنعاء، مُطالباً بتخفيف محطة العساكر، فكان له ما أراد، وهو التصرف الذي ساعده على إعادة التواصل مع «الأدارسة»، ومن ثم إعلانه وعدد من المشايخ التمرد الأكبر «يوليو 1920م».
استولى ثوار صعفان على حصن «غراس»، وقتلوا وأسروا العشرات من عساكرِ الإمام، ليأتيهم المدد تلو المدد من «بني سعد، وأهل مدول، والطرف، والعارضة، وبنو جرين، وبني إسحاق، وكثير من قبائل القُحري، ومن أرسلهم محمد طاهر قائد الإدريسي من باجل من قبائل المسارحة، وحاشد، وبُرع»، وقد قدرهم المؤرخ مُطهر بـ «6,000» مُقاتل، وختم حديثه مُتحسراً: «وأقبلوا إلى صعفان، فغشوه من كل جانب في يوم واحد»، مُبرراً: «ولاختلاف المذاهب في حراز حصل الزلزال، وأرجف بعضهم على بعض بالمقال».
وهكذا تحققت السيطرة «الإدريسية» على صعفان، وحاصروا حصنها المنيع «مسار»، بعد أن نكلوا بالقوات الإمامية شرَّ تنكيل، وبدعم من الأهالي كبير، ليبادر الإمام يحيى فور علمه بتلك الهزائم بتجهيز جيش أكبر، بقيادة «أمير جيش المظفر» عبدالله الضمين، أعلن الأخير للناس نفيرهم للجهاد، ليبادروا – حد توصيف «مُطهر» – إليه من الأغوار والأنجاد.
تقدمت القوات الإمامية نحو صعفان من محورين، محور بقيادة «الضمين»، وآخر بقيادة «حاكم العر» إسماعيل – لم يذكر «مطهر» اسمه الكامل – وقد تقدم الأخير إلى «أكمة شيبان»، ومنها إلى «الجيَّاري، وأكمة عاصم، وحصن أعفاد»، سيطر عليهن بعد معارك شرسة، وعن ذلك قال «مطهر»: «ثم هجم المجاهدون على المحلات فأخذوها عنوة، وفر الأعداء منها، وانحدروا إلى الوادي، وغنم المجاهدون منها كثيراً من البقر والغنم والحبوب، وأبقى المقدمي رتبة في الجيَّاري، وجمع أصحابه في المعاجلة، وأحرق القرى الآخرة».
وفي الجهة الأخرى وصل «الضمين» بقواته إلى «المربا»، وحاول بعد معارك شرسة السيطرة على «الشرف الأعلى»، ولكن دون جدوى، ليتحول «حاكم العر» بقواته نحوه، لينجحوا بالسيطرة على مُحيط ذات المنطقة بالخديعة، ولم ينس «مطهر» أن يذكر حينها معجزات خارقة لسيده الإمام، الذي جعل الله الأقدار – حد وصفه – طوع يمينة، وأضاف: «وصادف في تلك الحال كثرة رمي الشهب في السماء إلى جهة الغرب كثيراً، وحكى أهل الهجرة وهوزان أنهم سمعوا الأصوات في تلك الليلة، والمناداة بلفظ: يا متوكلاه! ولم يكن الصوت يسمع من هنالك إلى جهتهم».
بدأت بعد ذلك انتصارات القوات الإمامية تتوالى، نجحوا في السيطرة على كثيرٍ من المناطق، طردوا منها الأهالي، وعاثوا فيها نهباً وخرابا، وعلق «مُطهر» قائلاً: «وكان بعد هذا الجلاء دخول المجاهدين، ومن ورد من أهل حراز تلك القرى والحصون، وفتحوا من المنازل كل مقفل مصون، وانتهبوا ما فيها من الأمتعة والخبايا المنوعة، وامتلأت الطرقات من صعفان إلى مناخة للغادي والرائح، وشبعت الطيور والوحوش من الطوائح، واشتغل القوم بتلك الغنائم، بعد أن بددت أيدي النوى والبغي أهلها في خبوت التهايم».
حاول ثوار صعفان وبدعم من «الأدراسة» استعادة مناطقهم، ولكن دون جدوى، ليستسلموا بعد ذلك للأمر الواقع، منهم من عاد إلى بلاده خاضعاً مُستسلماً لحكم الإمام، ومنهم من رفض العودة مُتحملاً مغبات هكذا قرار، وقد كان الشيخ عبدالله بشر من الفريق الأخير، وفي باجل تملكه اليأس القهر، ومات مقهوراً.
حصلت في تلك الأثناء تمردات عاصفة في «زبيد، ووصاب، وريمة»، كانت الأخيرة هي الأشهر والأكثر إثارة، سأتناولها تفصيلاً في مقالات لاحقة، بعد الاكتمال من نبش الذاكرة الشفهية التي أرخت لحوادثها.
وأختم بالقول: هدأت المواجهات بعد ذلك في تلك المناطق مؤقتاً، وحصل ما يشبه التعايش بين الجانبين، وهي تفاصيل ذكرها الرحالة أمين الريحاني، حيث أكد أنَّ الحدود عام زيارته ـ «مايو 1921م» ـ كانت على هذا النحو: آخر جبال ريمة جنوباً للإمام يحيى، وجبل برع للسيد الإدريسي، وآخر جبل صعفان شمالاً للأول، وأول جبال بني سعد للأخير.