24.7 C
الجمهورية اليمنية
10:29 صباحًا - 24 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

الأتراك في اليمن (4/4).. شامة بجلد ثور

بلال الطيب

«ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة الحال، لسارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنع من محاربة العترة النبوية، التي هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية»، هكذا خاطب الإمام محمد حميد الدين السلطان عبد الحميد في إحدى رسائله، وحين يأس من الأخير، فتح خط تواصل مع الإنجليز «الفرقة الكفرية»، وكان «سلطان لحج» فضل العبدلي وسيطهم إليه، وبتحريض منهم عادى الأتراك، واستمات في حربهم، وكانت حُروبه هذه المرة تخريبية، حرب عصابات، اقتصرت على نسف بيوت المناوئين، وقطع أسلاك التلغراف، ومهاجمة الطرق، ونهب البريد.

تم عزل الوالي أحمد فيضي باشا «محرم 1316هـ / مايو 1898م»، وحل محله حسين حلمي باشا، لم يكد الأخير يصل العاصمة، حتى اعترض موكبه في «متنة» جُموع غفيرة من القبائل المُناصرة للإمام محمد، كان الأخير قد تعب في تحشيدها لحصار صنعاء – وهو ما يسميه بعض المؤرخين بالحصار الثاني – إلا أنَّهم فور سماعهم بوصول ذلك الموكب تخلوا عن مهمتهم طمعاً بالغنائم، احتاط الأتراك للأمر، حموا واليهم، وتفرقت القبائل.

كان الوالي الجديد – بشهادة كثير من المؤرخين – من أفضل الولاة، قام بإصلاحات جمة، عزل الفاسدين، وأسس دارًا للمعارف، ودارًا للمعلمين، ومكتبًا للصنائع، كما أصدر أوامره بأن يكون التعليم إجباريًا لجميع اليمنيين، وجعل إلى جواره هيئة من أهل العلم والسياسة، يشاورهم فيما يمكن عمله لإصلاح البلاد والعباد، وحفاظـًا على الهوية اليمنية استصدر من «الباب العالي» أمرًا بأن يلبس الموظفون العمائم بدلاً عن الطربوش، خلافًا لأوامر الوالي السابق.

سخر صاحب «الدر المنثور» – كاتب سيرة الإمام محمد – من إنجازات هذا الوالي قائلاً: «وأن هذه الحوادث التي ألمت بهذا الوالي الخبيث من حسن صنيع الله مالا يخفى، فإنَّه خرج مفوضاً في اليمن، وصار تارة يهم بمخاطبة الناس بالنظام.. وتارة يخاطب الناس يدخلوا أولادهم الرشيدية، فلم يتم له المرام»، ثم عاد فاستدرك: «إلا أن كثيرًا من أهالي صنعاء أدخلوا أولادهم المكاتب، مكتب الرشيدية للأطفال، ومكتب المعارف، ومكتب الإعدادية، ومكتب الصنايع، ومكتب العربية، كل هذه المكاتب فيها كثير من أهل صنعاء، وعلى الجملة قد أفسدوا أهل صنعاء، حتى لم يبق منهم من لم يخالط الدولة إلا مثل الشامة بجلد الثور».

سحب الوالي الجديد البساط من تحت أقدام الإمام محمد، ناصره بعض المشايخ، وناشد الأخيرين أقرانهم بذلك، وبالفعل انضمت قبائل «وداعة، وحاشد» لذات الحلف، وقد ذكرت وثائق عثمانية أنَّ حوالي «200» شخص من مشايخ وسادات «بني حشيش» برئاسة عبدالله بن الإمام محمد الوزير طلبوا الأمان، وتخلو عن مناصرة «إمام شهارة».

كان لحلمي باشا توجه للصلح مع الإمام محمد، الأمر الذي تعارض مع مركزية الدولة الشديدة، وميول بعض النافذين للفساد، وحين اشتد التضييق عليه؛ قدم استقالته، وغادر اليمن «محرم 1318هـ / مايو 1900م»، وفي ذلك قال الواسعي: «وأسف الناس عليه، لاسيما أهل العلم، وسافر وهيئته، وأحيلت الولاية إلى المشير عبدالله باشا»، وكان الأخير من كبار الفاسدين المُفسدين.

وفي العام «1319هـ / 1901م» وصل إلى الإمام محمد القاضي أحمد بن محمد البرطي، والنقيب على بن ناصر جزيلان المعروف بـ «أبي حرب»، وهما من مشايخ «بكيل» في «اليمن الأسفل»، وصلا طالبين الدعم والمساندة لإعلان التمرد في تلك الجهة، وبالفعل عاثوا بعد عودتهما إلى إب فساداً، ونهباً، وتخريباً، وعن ذلك قال «صاحب الدر المنثور»: «ولما وصلوا إلى هنالك ثارت قبائل المشرق الذين كانوا قد استوطنوا اليمن الأسفل، فعاثوا في البلاد، وصاروا يتعرضون للطرقات، وينهبون الضعفاء من الرعية، ويتخطفون كل من ظفروا، حتى اشتعل اليمن ناراً، وسُفكت الدماء».

تعرضت مدينة إب في تلك الأثناء للحصار من قبل مجاميع النقيب على جزيلان، تداعى الأتراك لإنقاذ المدينة، فما كان الشيخ المذكور إلا أن انسحب إلى جبل بعدان، لتدور هناك مواجهات شرسة لثلاثة أيام، كان النصر فيها حليف الأتراك، فيما توجه المتمردون شمالاً، مُستجيرين بالإمام مرة أخرى.

لم ينعم اليمن في عهد الوالي عبدالله باشا بالأمن والاستقرار، كان مُتكبراً – مُتجبراً – عنيدا، استشرى في عهده الظلم والفساد، واشتد الجدب، وارتفعت الأسعار، وحين احتل الإنجليز منطقة الضالع «1320هـ / 1902م»، لم يُحرك ساكناً، الأمر الذي أغضب «الباب العالي» عليه، ومهد لعزله، وجيء بتوفيق باشا بدلًا عنه «1321هـ / 1903م»، بالتزامن مع إصابة الإمام محمد بالشلل.

توفى الإمام محمد في القفلة «ربيع الأول 1322هـ / يونيو 1904م»، فتولى ولده الوحيد يحيى – ذو الـ «36» عاماً – الأمر من بعده، كان حصن شهارة المنيع مقرًا لحكم الأخير، وقد بدأ عهده كأبيه بمحاربة الأتراك، ووعد مُقاتليه بالغنائم الكثيرة، وأفتى بـ «أنَّ من قتل تركياً دخل الجنة»، وسيطر بــ «20,000» مُقاتل على أغلب مناطق «اليمن الأعلى».

حاصرت قوات الإمام الجديد صنعاء لستة أشهر متتالية، ليدخلها بعد جلاء نحو «9,000» تركي بعائلاتهم، وانسحاب عساكر الحامية التركية ومعهم «800» بندقية «موزر» إلى حراز، بموجب اتفاق صلح وقعه الطرفان «صفر 1323هـ / إبريل 1905م»، أشرف هو بنفسه عليه، ليدخل صنعاء في الشهر التالي، اللافت في الأمر أنَّه سمح باستمرار الدعاء للسلطان، واستبقى الراية العثمانية ترفرف في المدينة؛ مبرراً ذلك بأنَّه يصب في مصلحة المُسلمين.

استطاع الإمام يحيى بموجب ذلك الاتفاق الحصول على كمية هائلة من الأسلحة، قدرها الأتراك أنفسهم بـ «56» مدفعاً، و«27,000» بندقية، و«160» صندوق ذخيرة، وقد وجه على الفور بإخراجها وإرسالها إلى شهارة، أما المدفع الكبير الذي لم يستطع إخراجه فقد أمر بتقطيعه، واستخدام أجزائه في صناعة أدوات أخرى، وهذا – وإن دل – فإنما يدل على أن أمله بالبقاء في صنعاء كان ضعيفاً.

وهذا أحد عساكر الإمام يحيى ممن شاركوا في اجتياح صنعاء، قال لأمين الريحاني: «بعد أن حاصر الإمام صنعاء، وسلم الترك، غنمنا من البنادق خيرات – أي كثير – فكانت بندقية الموزر تباع بريـال واحد، وبعد واقعة شهارة – سيأتي ذكرها – من استطاع أن يجر مدفع إلى بيته أعطي له».

حدثت عام ذاك مجاعة كبرى، فتكت – هي والحصار – بآلاف البشر، نقل المُؤرخ الواسعي جانباً من معاناتها قائلاً: «فتجمعت القبائل على صنعاء، وتكاثرت، وضاقت على أهلها بما رحبت، واشتد الحصار، وخرج الصغار والكبار والنساء والمخدرات، وقاسوا عظيم الأهوال، وباعوا جميع الأموال، والأمتعة والفراش، وكان الثمن في غاية الرخص، ومات في قرية القابل من الجوع الف وستمائة شخص، غير الذين ماتوا في سائر القرى».

جهز الأتراك بعد ذلك حملة عسكرية قوامها «50,000» مقاتل، بقيادة المشير الثمانيني أحمد فيضي باشا، الذي عين والياً على اليمن للمرة الثالثة، وما إن علم الإمام يحيى بمقدمه، حتى خرج بقواته من صنعاء، وذلك بعد شهرين من دخولها، مُتذرعاً هذه المرة بخوفه على سكانها، ليتمكن الوالي الجديد بعد معارك محدودة من دخول المدينة «جمادي الآخر 1323هـ / أغسطس 1905م»، ومنها وجه قواته لاستعادة باقي المناطق.

انسحب الإمام يحيى إلى شهارة، وفي صنعاء عزم الوالي فيضي باشا على اقتحام ذلك الحصن الحصين، حققت قواته بادئ الأمر انتصارات كبيرة، ولولا مناصرة أحمد آغا للطرف الآخر، لكان بني قومه اقتحموا المدينة، كان «الآغا» أحد «المدفعيين» المهرة، فطن وغيرة من أتباع الإمام إلى خطة انتحارية تتمثل بقيام مجموعة من الأنصار المُخلصين بفتح أحد الأبواب الكبيرة، والاشتباك مع قوات فيضي بالسلاح الأبيض، ثم يوجه «المدفعي» قذائفه عليهم، ويفتك بهم جميعاً، وهو ما حدث يوم «26 شوال 1323هـ / 22 ديسمبر 1905م».

تراجعت قوات الوالي فيضي من مشارف شهارة، وأثناء عودتها دارت معارك عنيفة بينها وبين القبائل المُساندة للإمام يحيى، كلفت الأتراك مئات القتلى، وفي ذلك قال المؤرخ العزب: «وكانت القوات العثمانية لا تتراجع إلا بين هول المعارك، وصليل السيوف في القرى والسهول والأودية والجبال، حتى تناثرت الأشلاء والجثث على طول الطريق، وتعذر المرور لشدة النتن»، وقد استعاد الإمام يحيى بعد ذلك أنفاسه، وأفتى بعدم جواز صلاة الجمعة مع الأتراك، وأشرف بنفسه على حرب عصابات كلفت الأتراك وأعوانهم الكثير.

أدى تمرد بعض الضباط والعساكر في الجيش العثماني على قائدهم أحمد فيضي إلى إضعاف جبهة الأتراك الداخلية، فما كان منهم إلا أن سارعوا بإيقاف الحرب، مادين أيديهم لمفاوضة الإمام يحيى، وقد أرسل الأخير بشروط غلفها بالصبغة الدينية «صفر 1324هـ / إبريل 1906م»، أراد منهم الاعتراف بزعامته السلالية، ومنحه قدراً من السلطة الزمنية بين أتباعه، كما طالب بإعفاء بعض القبائل من التكاليف الزكوية؛ كي يكسب موقفها إلى صفه، والأهم من ذلك أنَّه سلَّم بحقهم في الدفاع عن اليمن ضد أي عدوان أجنبي، وفيه اعتراف ضمني منه بالسيادة العثمانية على البلاد.

لم يقبل الأتراك تلك الشروط؛ لتتجدد بينهم المواجهات، وحين لم ينتصر أحد الفريقين، أرسل السلطان وفداً من علماء مكة «1325هـ / 1907م»، تركزت مهمته في حث الإمام يحيى على وقف القتال، بقي الأخير مُحتفظاً بما تحت يديه، وكذلك الأتراك، مع حدوث مناوشات محدودة بين الجانبين.

تأكيداً لرغبتهم بتهدئة الأوضاع، وبسبب ضغوط نواب اليمن في «استانبول»، أرسل الأتراك فور نجاح ثورتهم الدستورية «جمادي الآخر 1326هـ / يوليو 1908م» بحسن تحسين باشا الفقير والياً على اليمن، لما عُرف عنه من الحكمة والاتزان، وقال عنه المؤرخ الواسعي: «صلحت في أيامه أحوال اليمن، وسكنت الفتن، ولم يتعرض الإمام وأعوانه وشيعته بأذيتهم، وحصل بينه وبين الإمام صلح، وألا يتعدى أحد على الآخر».

لم يدم ذلك الصلح طويلاً، عزل الأتراك واليهم الحسن «حسن»، وجيء بكامل بيك – مُتصرف تعز – بدلاً عنه «صفر 1328هـ / مارس1910م»، لم يستمر الأخير سوى ثلاثة أشهر، ليخلفه محمد علي باشا، وقد كان الأخير موصوفاً بالطيش والتجبر، ومبالغته في معاقبة أنصار الإمامة؛ بل أنَّ مقدمه بالأساس كان للقضاء على نفوذ الإمام يحيى، إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي سفنه.

تجمعت قوات الإمام يحيى حول صنعاء، وحاصرتها من «محرم / يناير» إلى «ربيع الثاني 1329هـ / إبريل 1911م»، وقد نقل صحفي انجليزي تلك الوقائع لجريدة «التايمز» اللندنية، قائلاً: «أتيح لي أن أكون في صنعاء لما كان الإمام محاصراً لها، وكان عدد المحاصرين يتراوح بين (10,000) و(50,000) مقاتل، ولو هجموا على المدينة لتيسر لهم فتحها؛ لأن حاميتها مؤلفةً من (5,000) مقاتل، ونحو (30) مدفعاً».

كثرت عام ذاك أعمال النهب من قبل قوات الإمام يحيى، خاصة حينما توجهت بأوامر منه جنوباً، وما إن حطت رحالها في يريم، حتى عاثت فيها نهباً، وسلباً، وخرابا، وقتلت «30» شخصاً أكثرهم من الأطفال والنساء، رغم أنَّها منطقة «زيدية» توالي الإمامة، وفي ذلك قال الواسعي: «كان العرب حولها ذو محمد وذو حسين، قبيلة معروفة مُتوغلة في الجهل والقسوة والشدة والفجور.. هجموا على هذه المدينة، وحصل منهم الأفعال الشنيعة من النهب والقتل، ثم الخراب».

وقد أورد القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته تفاصيل ذلك نقلاً عن أبيه، حيث قال: «ولكن الجيش المؤلف من قبائل همجية قد هالهم ما رأوا في بيوت المواطنين الذين فتحوها لاستضافتهم، فأقدموا على نهب كل ما وصلت إليه ايديهم، حتى بلغ بهم الأمر أن يقطعوا آذان النساء ليأخذوا الأقراط التي عليها».

كما أنهم – كما أفاد المؤرخ محمد بن علي الأكوع – أتوا أفعالاً مُضْحكة مُزرية تعكس جهلهم وغباءهم، ومنها أكلهم للصَّابون ظانين أنَّه سُكر، وآخرون وجدوا أُرْزاً فحسبوه دودًا ميتا فرموا به، والبعض رأى صُورته في المرآة الزجاجيَّة فظن أنَّه عدوٌ، فرمي بالمرآة حتى تطايرت شظاياها فوقه، وحين رأى الدماء تسيل من فوق جسده، ظن أنَّه قتل عدوه! والغريب في الأمر أنَّ الإمام يحيى وبعد عدة مناشدات رفض تعويض أبناء يريم، فيما عوضهم الأتراك – فيما بعد – بـ «600» ليرة ذهبية.

حين علم الأتراك بما حلّ بجنودهم من هزائم، سارعوا بإرسال حملة عسكرية كبرى، أسندت مهمة قيادتها إلى المشير عبدالله باشا، إلا أنه توفي وهو في طريقه من الحجاز إلى اليمن، فتولى قيادة الحملة رئيس الأركان اللواء أحمد عزت باشا، ولإكمال تفاصيل المشهد، أترككم مع ما قاله الصحفي الإنجليزي: «أنفق الفريقان مقداراً عظيماً من الذخائر سدى، ولم يحتدم وطيس القتال إلا لما دنا عزت باشا بجيشه، فكانت الحامية تخرج من المدينة وتهاجم الثوار، فنشبت بينهما معارك شديدة، خسر فيها الفريقان خسارة جسيمة، ومما يستغرب أن البنادق والذخائر في شبه جزيرة العرب أرخص منها في أوروبا، ولم يستعمل الثوار المدافع العديدة التي غنموها؛ لأنَّه ليس بينهم من يحسن الرماية بها».

نجحت في تلك الأثناء قوات تركية بقيادة سعيد باشا من استعادة حجة، ويريم، وفك الحصار عنهما، فيما حاول عزت باشا التقدم صوب شهارة، إلا أنَّ تمرد محمد بن علي الإدريسي في جيزان حال دون ذلك، فاضطر لمهادنة الإمام يحيى، التقيا في «دَعَّان»، وهي قرية صغيرة غربي مدينة عمران، وتم الصلح بينهما «شوال 1329هـ / أكتوبر1911م» على عدة شروط، التزم الإمام يحيى على هامشها بإطلاق سراح «500» أسير، وإعادة المدافع التي غنمها في الحروب السابقة، إلا أنَّه ماطل في التزامه الأخير.

طويت – بذلك الصلح – صفحة قاتمة لصراع كلف الجانبين آلاف الضحايا، قدرهم الشماحي مُبالغاً بما لا يقل عن نصف مليون قتيل من اليمنيين، وأضاف بأنَّ خسارة الأتراك لم تكن بأقل من تلك التضحيات، لم يعد الأخيرون بعد ذلك «كفار تأويل» مهدوري الدم، كما لم يعد الإمام يحيى خارجاً عن طاعة الدولة، يجب إخضاعه، وفي ذلك قال الواسعي: «وبعقد الاتفاق انحسم الخلاف، وهدأت الخواطر، وقرت الأعين النواظر، وارتاحت النفوس، وزال كل خطب وبؤس».

الأتراك من جهتهم، وتأكيداً لرغبتهم في استمرارية الصلح، قاموا بعزل محمد علي باشا «جمادي الآخر 1330هـ / مايو1912م»، وتعيين محمود نديم بك بدلاً عنه، والأخير عربي من أصل سوري، كان له عظيم الأثر في تهدئة الأوضاع؛ بل أن الإمام يحيى نفسه كان يثق به، وكان يكتب إلى عماله بأن يلتزموا بأوامره.

ضاقت القبائل الشمالية المُعتاشة من غنائم الحرب ذرعاً، بدأ البعض من مشايخها يتذمر ويعلنها صراحة بموالاة الإدريسي، حليف الطليان، والمُستمر في حروبه العدائية ضد الأتراك، وكان الشيخ ناصر الأحمر من أوائل المتمردين، حسب ما أشارت إليه تقارير القنصل الأمريكي بعدن «رايموند دافيد»، الذي نقل عن ذات الشيخ قوله بـ «أنَّ الإدريسي يدفع أكثر»، وأنَّهم لهذا السبب مالوا إليه.

مع نشوب الحرب العالمية الأولى، تحالف الإنجليز مع محمد الإدريسي، بعد أن تخلى عنه الطليان، ورداً على ذلك قام الأتراك باجتياح لحج «شعبان 1333هـ / يوليو 1915م»، بقيادة اللواء علي سعيد باشا الجركسي، ومعه أكثر من «8,000» مقاتل، غالبيتهم من قبائل «اليمن الأسفل»، مع قلة قليلة من «الحواشب، واليوافع، والصبيحة».

وقف الإمام يحيى في تلك الحرب على الحياد، ووصلت القوات التركية إلى «الشيخ عثمان»، إلا أنَّ الإنجليز استردوها بعد أن استخدموا الطيران لأول مرة، وفي الأخير حدث ما يشبه التعايش بين الفريقين، ففتحت التجارة بين لحج وعدن، ونشأت علاقة ودية طريفة بين المتحاربين، دامت حتى انتهاء تلك الحرب.

بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وقّع الأتراك «محرم 1337هـ / أكتوبر 1918م» على هدنة «مودروس»، وبموجبها، وبعد شهرين من توقيعها استسلمت قواتهم في لحج للإنجليز، وعن ذلك قال «جيكوب»: «وقد دخل علي سعيد باشا عدن دخول المُنتصر، فقد قابلته الجماهير هاتفة له؛ وذلك لأنه حارب بيدين نظيفتين، وكان جندياً ممتازاً، وكذلك إدارياً من الدرجة الأولى، وقد أكسبته شخصيته عند زحفه إلى الجنوب كثيراً من الأصدقاء».

وما يجدر ذكره أنَّ الإمام يحيى سبق وأن رفض أخذ لحج وضواحيها بموجب مُبادرة قدمها له سعيد باشا، ورد على الأخير بما معناه: «ماذا أريد بأرض إذا أرسلت إليها العسكري لا يعود»، وتشير بعض الوثائق التركية أنَّ القائد سعيد كان يود مخلصاً أن يرى اليمنيين يستلمون مناطق الجنوب من تركيا عند هزيمتها، بدلًا من إعادتها تحت النفوذ البريطاني، وقال في رسالة بعثها للشيخ عبدالوهاب نعمان «قائم مقام – الحجرية»، ما نصه: «نحن مجبورون على ترك تربة اليمن المقدس، وأهله إخواننا المحترمين الذين اشتركوا معنا منذ أزيد من أربع سنين، وإنا نتمنى لإخواننا في الدين الاتحاد والاتفاق التام، وأن لا يقبلوا تولية النصارى قطعياً، لنكون على الدوام في سلوان بحسن فعالهم».

أما الوالي التركي محمود نديم فقد رفض الاستسلام للإنجليز، خوفاً من وقوعه هو وأصحابه في مذلة الأسر، التحق وأفراده الـ «900» بقوات الإمام يحيى، ليغادروا اليمن فيما بعد، باستثناء «300» ضابط وجندي استبقاهم الأخير لتدريب جيشه النظامي، فيما أسلحة وعتاد الجيش التركي صارت ميراثاً سهلاً للدولة الوليدة التي لم يعترف بها الأتراك إلا بعد مرور أربع سنوات، وذلك بموجب معاهدة «لوزان».

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد