الأستاذ قادري أحمد حيدر :
إن شعارات وبيانات السلام التي تطل وتهل علينا بين الفينة والأخرى، سواء بوعي قصدي، أو بسلامة نية، إنما توسع من دائرة الحرب، وتسهل تحركات أمراء الحرب، شعارات “سلام”، مع انتشارها بدون رؤية نقدية (سياسية/ تاريخية)، لما يجري حقيقة على الارض في كل البلاد، إنما تقلص من مساحة حضور السلام المرتجى في الواقع، وتبقيه سلاماً معلقا في فضاء القول المجرد، وهو ما تقوله تجربتنا السياسية مع شعارات السلام طيلة الست السنوات المنصرمة.
بل هو- حقيقة- ما تقوله تجربتنا السياسية والعسكرية في ستينيات القرن الماضي، حين كان البعض يرفعون في قلب العدوان على الثورة( السبتمبرية)، والجمهورية الوليدة (المحاصرة)، شعار “إيقاف الحرب” و”المصالحة” و”السلام” بدون رؤية سياسية وطنية واضحة .. كان البعض من رموز “الجمهورية القبلية” وبقايا الأحرار يرفعون هذه الشعارات ضداً على قيادة الرئيس السلال ومن يقفون مع خياره السياسي الجمهوري، ومعارضة ورفضاً للدور السياسي والعسكري التحرري لمصر عبدالناصر في اليمن، معارضة بدأت مع مؤتمر “عمران” ومؤتمر “خمر” ومؤتمر “سبأ” وغيرها من المؤتمرات السياسية والقبلية / المسلحة كان شعارها “إيقاف الحرب” و”المصالحة” و”السلام” حتى تحولت هذه الشعارات إلى نغمة سياسية/ أيديولوجية ، ولم تكن مصادفة، ان نجد رديفها أو مقابلها السياسي في جنوب البلاد -في ذات الفترة – في صورة شعارات مشابهة، بدءاً من مؤتمرات لندن لتسوية قضية جنوب اليمن: مؤتمرات لندن 63 إلى 64، وحتى آب / أغسطس 1965م، على أساس من رفضهم لخيار الكفاح المسلح لتحرير جنوب اليمن ،، ومن أن المفاوضات والحلول السياسية/ التسويات مع بريطانيا ستمنح جنوب البلاد استقلاله بدون حرب، (حرب الدراويش/ كما كانوا يطلقون عليها/عبدالله الاصنج)، على أن تحتفظ بريطانيا بقاعدتها في عدن.. وهي تسويات سلاموية كانت تراهن على الخلاف السياسي التكتيكي، بين حزب المحافظين ، وحزب العمال البريطاني، التسويات والمصالحات التي كان يقودها عبدالله الأصنج ، والسلاطين والمشايخ الكبار.
وبهذا المعنى وفي ذات السياق جاءت وكانت التسويات في شمال البلاد، تحت شعارات إيقاف الحرب، والسلام، بدءاً من مؤتمرات الأسكندرية 14/9/1964م وأركويت (السودان) 9/10/1964م واتفاقية جدة 24/8/1965م و”الطائف” 31 يوليو 1965 إلى 10 أغسطس1965م ، الذي تم فيه التنازل عن خيار الدولة، والجمهورية، بــِ” الدولة الاسلامية”،وجميعها لمن يقرأ الخيط السياسي الرفيع، والناظم لها، تطالب بتسويات سياسية فوقية ناقصة للقضية اليمنية، باسم “السلام” و”إيقاف الحرب” و”المصالحة” تسويات فوقية “لاوطنية” تحت شعارات سلاموية براقة. والنتيجة النهائية كان انقلاب 5 نوفمبر 1967م الانقلاب الذي حول النصر العسكري على الملكية (الإمامة) والرجعية العربية (السعودية)، والقوى الاستعمارية في انتصار السبعين يوماً إلى هزيمة سياسية ووطنية في 23/ 24 أغسطس 1968م والذي كانت خاتمتها ما يسمى بــِ،”المصالحة” و”السلام” مع الملكيين، والسعودية وعلى حساب الجمهورية والجمهوريين، في صورة ما يسميه البعض “مصالحة” في مارس 1970م. وكأننا اليوم مع تاريخ يصر على إعادة انتاج نفسه في صورة مهزلة، ومأساة معاً، ولكن في قالب مسرحي دراما تيكي، وهو ما يشترك في صناعته قوى محلية “وكلاء” ، وقوى إقليمية ودولية مقررة، تسويات نسمع عنها ولا نرى أنفسنا فيها، كما هو حاصل اليوم، وكله باسم السلام.
إننا مع أحاديث السلام الجارية اليوم، نجد أنفسنا أمام رطانة تبشيرية (قديمة/ جديدة) حول “ايقونة سلام” و”مصالحة” ممنوعة من الصرف السياسي في أرض الواقع، سلام كان وما يزال يذهب ولا يأتي سوى مجللا بعار الحرب، لأننا حقيقة نجد انفسنا أمام شعارات تتحرك داخل نطاق بيانات تستثمر في المأساة الانسانية، ولا تبحث في الأسباب المنتجة للحرب في كل ساعة ويوم، ومظاهرها وظواهرها الكالحة تغطي وجه البلاد، من الشمال للجنوب.
والشاهد على ذلك أن كل نداء حول ايقاف الحرب، لا يقودنا سوى إلى مزيد من الحروب المتنقلة، حتى صرنا نخشى ونخاف من الاحاديث المائعة والملتبسة عن التسويات والمفاوضات، حين تبدت لنا وكأنها الوجه الآخر للحرب، أو هي المقدمة التالية للحرب.
وكل ما سبق، إلى جانب عوامل سياسية عديدة، ، داخلية واقليمية ودولية، هي التي تفسر لنا، تقدم العسكري على السياسي، وتحرك العسكري عشوائياً، وانقياد السياسي لعشوائية العسكري، في واقع الممارسة، مما أضعف الإرادة، وغيب الرؤية الوطنية، والاستراتيجية، وأضعف التنظيم المدني، وصادر العمل النقابي، وهو ما نراه في صورة صمت السياسي وانكفائه، -أقصد دور الأحزاب وقياداتها- وجميعها من عززت مكانة العسكرة/ الميليشوية بدون رؤية، وشجعت ممارسة السياسة بالحرب. ولا خيار سوى بانتصارنا جميعاً لمشروع الدولة اليمنية الديمقراطية الاتحادية، التي بإمكانها فتح الباب الموارب لخيار دولة سلطة القانون (دولة المواطنة للجميع)، وإغلاق الباب الموارب/ التلفيقي، للحلول “السلاموية “، التي تجعل الحرب تتدحرج بين الحرب والحرب، بين هدنة وهدنة، وبين شعار “سلام” يستديم الحرب.
إنهم – البعض- بخطابهم السياسي حول السلام الناقص، إنما كانوا بذلك يعتقلون فكرة وقضية السلام، في محاولة بائسة لاحتجاز قضية السلام، في كلمات ونداءات وبيانات مسلوبة الإرادة، وهنا تكمن مشكلتنا مع مثل هذه الخطابات الصورية/ التلفيقية حول مضمون ومعنى السلام.
إن أي دعوة أو حركة ضد الحرب، ومع السلام، إن لم تتمكن من تشكيل نواة حركة مقاومة مدنية سلمية ضد الحرب، وقواها السياسية والاجتماعية، وليس بإيقافها المؤقت، بالدعوة الشعارية باسم “السلام”، فإنها بذلك لا تستديم سوى سورة الحرب، وجعلها – الحرب – ممتدة إلى كل جغرافية البلاد ، وللأسف تحت شعارات سلاموية لا معنى لها .
إن السلام حين يكون فاقداً لبوصلة الرؤية للحل، يتحول فعلياً وسياسياً إلى سلام للاستهلاك اليومي، ومدخلاً لإعادة تدوير آله الحرب واستدامتها، وكلها باسم “سلام” لن يأتي سوى لتعزيز كفة ومكانة الحرب، وقوى الحرب، عبر شعارات كلامية حول إيقاف الحرب.
إن نقل فكرة وقضية السلام من الخيال السياسي إلى الواقع، هو الأمر المهم، ولذلك ثمن سياسي وكفاحي، يتهرب البعض من الاقتراب منه لأنهم يريدون سلاماً ناجزاً جاهزاً متقولباً في شعارات كلامية، وبدون عدة وعتاد للدفاع عن ذلك السلام المنشود.
لن تنهي الحرب شعارات مجردة” وعظية”، حول السلام، بل إدارة، وإرادة سلام حقيقية رافضة لمبدأ توريث الحكم، ” الولاية”، ومقاومة للإستبداد، والعنصرية، إرادة تقضي على جميع محاولات تحويل السلام إلى مصدر رزق مادي، أو ربح سياسي لهذا الطرف أو ذاك.
لا نريد الاختباء خلف إصبع الشعارات والنداءات “السلاموية”، بل طرح رؤانا السياسية الواقعية مع السلام الحقيقي، وضد الحرب، ومن يعوقون ويعرقلون قيام الدولة الاتحادية الديمقراطية،” دولة المواطنة”،لحساب دويلات الميليشيات/ والمذاهب/ والطوائف/ والقبائل.
وهنا تحديداً يكمن سؤال السلام الحقيقي، بعيداً عن التنظيرات الدعائية حول “السلام المنقوص”.
والأكثر إثارة للتساؤل، والحزن معاً، ونحن نتحدث عن السلام وإيقاف الحرب، أن نجد أن من يتصدر – أحياناً- راية السلام، قيادات ارتبط اسمها وتاريخها بالسلطة وبالحرب “والقتل”، من اجل سلطتهم الذاتية، أسماء تحاول غسل تاريخها السياسي الدموي، بتبني شعارات نبيلة تظهر وكأنها تتطهر من تأريخ سياسي يؤرقها، ولذلك تسعى لتدوير شعارات الدفاع عن السلام وإيقاف الحرب. وهنا تكتمل صورة مأساتنا مع حديث البعض عن فكرة وقضية السلام، حين يتداولها البعض في سياقات لا علاقة لها بمعنى السلام وإيقاف الحرب .
إن المحتال هو الذي ينصب نفسه لأمر ليس له، ومناقضاً لذاته، أمر لا يعنيه حقيقة ولا يخصه.
البعض طوال عمره يشتغل بعمارة ذاته الخاصة، بدلاً عن تصحيح عمارة ذاته الأمارة بالسوء، وهذا الشغل ظل/ ويظل يلاحقهم طوال حياتهم.. ومن هنا ضجة، أو فضيحة أن علاقاتهم بالواقع لم يكن سوى بؤس.
إن الأفكار والمفاهيم العنصرية تتهاوى وتتساقط قلاعها وأركانها وأسسها في كل زوايا العالم، وتسقط دولة الصين العلمية والصناعية الجبارة والصاعدة، تفوق عنصرية” العرق الابيض”، بالتقدم الاقتصادي والعلمي على مستوى العالم كله، نحو مستقبل دول مساواة “مواطنية”، إلا في بلادنا، حيث تدخل الينا العنصرية ليس فحسب من الباب الواسع لاحتكار السياسة، والسلطة والثروة، بل واحتكار الحقيقة باسم “الحق في التفوق العرقي”( الإلهي)، وهي أسئلة، وقضيايا واشكالات يمر عليها بعض دعاة “السلام”، كأن لم يكن!! .
إن صمت البعض على ذلك يعني أنهم يرفعون شعار السلام الفارغ من المضمون، فوق حق الناس في الحرية، والكرامة المواطنية والاستقلالية الذاتية، والانسانية.. يعني أنهم في اعماق وجدانهم، وفي قرارة عقلهم الباطني ليسوا أحراراً بما يكفي،ومايزالون مشدودين لتاريخ كامن من العبودية، والعنصرية، والاستبداد، وهنا تسقط جميع حججهم، ودعاواهم حول شعار “السلام”، الفارغ من المعنى.
اجعل رجلك في أول الطريق الصح في اتجاه بوصلة السلام،
وعقلك يغذ الخطى نحو السلام الحق، وستجد نفسك تعانق تلقائياً حقيقة ما تريد.. ستجد روحك تصنع سلامك الداخلي وسلامك الوطني المرتجى، وسلامك الإنساني الشامل.
يستحق اليمن تسوية – غير التسوية الامريكية، الخليجية – تسوية، تقود إلى سلام سياسي واقعي .. سلام يرتكز على إنهاء شامل للحرب، سلام يستبعد قوى الفساد، والعنصرية، والاستبداد، وليس إدخال اليمنيين في دوامة هدن حربية لا تتوقف إلا لتبدأ !! .
ونقطة ع السطر.