عزالدين سعيد الاصبحي :
رغم تمسكي بكل بارقة أمل مهما بدت ومضة في سماء مكفهرة، إلا أن التدهور الحاد الذي يصيب الحالة اليمنية يشعر المرء بخيبة أمل لا توصف.
فمنذ سقوط صنعاء في 21 سبتمبر 2014 بيد ميليشيا الحوثي واليمن يشهد مزيدا من التمزق الذي ليس له مثيل.
كأنه كتب على هذا البلد الجميل حالات من المعاناة والقهر لينهض مجددا كعادته في تاريخ طويل مابين الكبوات والنهوض، منذ لعنة إنهيار سد مأرب الشهير قبل آلاف السنين وبذخ أصحابه في طلبهم من الإله أن يباعد بين أسفارهم وكأن الشقاء هواية يمانية أصيلة.
وكما وصفت الآية الكريمة طلب اليمنيين العذاب لأنفسهم (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) لتبقى صفة السفر والشتات سمة يمانية منذ أيام سبأ التليدة وحتى رحلة الشتات الجديدة لليمنيين التي بدأت في 21 سبتمبر 2014 ، لحظة اقتحام صنعاء من قبل الميليشيا وإعلان الحوثي بدء تدمير مؤسسات الدولة، لتبدأ تغريبة عذاب جديدة لليمنيين !.
يومها كانت صنعاء قد عاشت أيام مرعبة من القصف والقتل وأطبق الصمت على العالم وهو يرى أكبر مجازر الانتهاك تصيب اليمنيين ولا يجدوا لهم نصيرا وكأن ما يجري استجابة أخرى لطلب اليمنيين بالتمزق والبدء برحلة أخرى من التيه دون أن يطلبوا ولكنه دعاء آبائهم الأولين.
وأشير إلى حالة الانهيار المدمر منذ إعلان سيطرة ميليشيا الحوثي على صنعاء في 21 سبتمبر 2014 كونه كان أبرز محطة إنهيار الدولة حينذاك.
حاول العالم بعد تلك النكبة أن يخفي هول الفاجعة في جعل الميليشيا تكف عن مسيرة الإعلان عن هذا الانهيار وإبقاء حكومة تحفظ لليمنيين ما تبقى من مؤسسات هشة، لكن قرار الانهيار كان أكبر من المتهورين الذين تعاملوا مع قضية( الوطن بكل خفة)
فانفجر الوضع الهش بحصار الحكومة ورئيس الجمهورية وإعلان المليشيات بكل وضوح محاولات قتل رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي ورئيس الحكومة آنذاك خالد بحاح . ولما توقف أو بالأصح تأجل قرار القتل بقي الرئيس وما تبقى من الحكومة تحت الإقامة والحصار.
وحاولت مؤسسات دولية وجهات إعلامية عدة ألا تذكر هذه الفترة القصيرة الهامة في تاريخ الوجع اليمني، أي منذ سبتمبر 2014 وحتى التدخل العربي في مارس 2015 وأن تؤرخ لحرب إنهاء الدولة اليمنية ابتداءا من مارس 2015 يوم بدء تدخل التحالف العربي .
فالحرب بالنسبة لهذه الجهات هي عندما بدأ قصف طيران التحالف العربي وليس مع قتل الدولة وإنهاء الوطن اليمني في 21 سبتمبر 2014.
وقد شِهدتُ الكثير من النقاشات التي تتم بتعسف عجيب لرؤية الصورة في اليمن، في محافل دولية وإقليمية عدة بحكم عملي كوزير في الحكومات السابقة ومشاركتي كعضو بوفود التفاوض التي بدأت في مؤتمر جنيف يونيو 2015 ثم بيال السويسرية في ديسمبر 2015 ثم الكويت في أبريل 2016، حيث كان همُّ معظم الوسطاء فقط وقف الطيران، وأي قتل قادم من السماء والإبقاء على حرب الأرض والموت القادم منها.
ومن المؤلم أن من أسباب استمرار الحرب أيضا هو تجاهل مصدر الموت القادم من حصار المدن وإلغاء الطرق بين مختلف المدن اليمنية من قبل الميليشيا الحوثية، والسماح باستمرار إنهاء مؤسسات الدولة وهو الدمار الذي يفتك باليمنيين ويمزق الوطن ولحمته الاجتماعية أكثر من أي قصف جوي مهما بدا مدمرا.
ولا تزال حقول الألغام التي تزرعها الميليشيا الحوثية أكثر خطورة على واقع ومستقبل هذا البلد من كل معارك الموت المؤلمة، كما أن تعزيز ميليشيا المدن ونشر الفوضى هو الكارثة التي تهدد المستقبل كما هي دمار يومي للناس.
ولكن العالم الذي يهتم بصورة العلاقات العامة أكثر من حياة البشر، كان ولا يزال يعنيه وقف أي ضجيج لطائرة عابرة من أن تحاصر مدينة لسبعة أعوام متواصلة .
وأذكر تعليق أحد المسؤلين الدوليين عن عدم الضغط على مليشيات الحرب بما يخص تفجير منازل المواطنين أو حصار القرى بحقول الألغام قال: ” إنه موت غير معلن، ولايثير إزعاج الإعلام والشارع في عواصم أوربية وبالتالي لا يعنيه هذا الخراب فهي مسألة يمنية”.
وكل ما كانت الحرب دامية ومحاصرة جغرافيا مهما قست على اليمنيين فهي لا تصيب الآخرين بضرر ولا تعرض مصالحهم لخطر ، ومادام الصمت يحاصرها فتصبح مجرد أحداث لا تعني شيئا وقد تثير في أحسن الأحوال بعض الأسف.
مثلا من شهر سبتمبر 2014 وحتى مارس 2015 حدثت في اليمن مجازر مؤلمة من قتل ودمار وبدء حصار للمدن، والأهم إنهاء مؤسسات الدولة واختطاف وطن بكامله ومع ذلك هذه الأشهر غير موثقة في ذاكرة الحرب ولا تُعطى الأهمية.
بينما لو كان ضمير العالم تعامل معها بجدية وأيضا تعامل معها المجتمع اليمني بأحزابه ومثقفيه والشخصيات الإجتماعية المختلفة بيقظة وقوة، كان توقف مسلسل انهيار الدولة في اليمن وأوقفت أكبر عملية اختطاف لوطن كامل.
لو تمت تلك اليقظة المجتمعية في أول لحظات الانهيار لتوقف هذا
الخراب في أوله، وما فُتح البلد ليكون ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية والدولية.
ما تم هو كارثة إنهاء الدولة التي حلت باليمن، فهي ليست مجرد انقلاب لتغيير الحكم ولكن مغامرة لاختطاف بلد وتدمير مجتمع، وستبقى نفس النقطة هذه هي مفتاح الحل، ووقف التمزق اليمني الذي يزداد كل يوم عبر يقظة مجتمعية أخرى الآن تعيد لليمن نهوضا جديدا.
وهو أمر لا يبدو مستحيل على شعب أعاد للتاريخ ألقه مرات عدة، فاليوم عبر استنهاض خطاب مثقفي هذا البلد وشبابه يمكن وقف انهيار مؤلم،
فقد وصل البلد الجميل إلى آخر نقاط السقوط المؤجعة وآن أن ينهض،
أما كيف ؟ فذلك السؤال الذي يفتح بابا للأمل وطريقا لبدء العمل
عبر تقاسم فكرة استعادة الوطن وبناء الدولة اليمنية الحديثة المؤمنة بهذا التنوع الهائل.
__