توفيق السامعي:
تابع تسمية (بلقيس)
فلو عدنا إلى كل الآراء المذكورة التي ألفت حول تسمية (بلقيس) في مختلف الكتب، ومنها ما قيل أنه عن أصل عبري أو يوناني، سنجد أنها بعيدة كل البعد عن هذه الاشتقاقات أو المقاربات.
ونحن نرى أن (بلقيس) اسم محلي يمني أطلق كصفة لملكة سبأ. فاستعمال اللفظ لا يزال إلى اليوم في بعض مناطق اليمن المختلفة، وعلى رأسها مارب والمعافر وإب. فـ(بَلْقَسْ) يعني في مارب: الخفة في الحركة والكلام، يقال: “تَبَلْقَسَ في الحركة والكلام، أي: كان سريع الكلام والحركة”. ويعني في المعافر: جوس المكان ذهاباً وإياباً بقلق وألم (الروغان في المكان من الطفح والألم)، يقال: “فلان يَتْبَلْقَسْ/ص في المكان طفحاً وألماً”. وقد صور هذه الصورة من الحركة الشاعر أبو الطيب المتنبي بالقول:
لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً فالطير يرقص مذبوحاً من الألمِ
وهذه الصفة (سرعة الحركة والكلام) تنطبق مع واقع حال الملكة التي ربما عكست حركتها الدائبة وتنقلها في مناطق مملكتها، فهي تزور الحبشة مثلاً، ثم تنتقل إلى أماكن أخرى، ثم تزور سليمان في الشام، وهكذا دواليك، وربما بسبب هذه الحركة والخفة نسبوها إلى الجن.
وهناك تحليل آخر، وقول آخر، ممكن أن نذهب إليه، وهو لو أننا تتبعنا الجذر اللغوي “ب ل ق” محلياً، وفي معاجم اللغة سنجد الكثير من الصفات وواقع التعريف ينطبق أو يشير إلى اشتقاق اسم بلقيس وتوليده من هذا الجذر.
فالبلق، كما هو معروف في مارب، هو أهم جبالها على أطراف الصحراء الشرقية، ومنه يستخرج المرمر أو الرخام، وفيه مسناة مارب، حيث بني السد.
ومعنى “بلق” بالمحكية الماربية يعني (البهاق)، وهو لون الجلد المصاب بمرض البهاق (البرص الخفيف) أي: (اللون الأبيض)، وجبل البلق يميل إلى البياض أساساً.
وقد جاءت تعريفات مختلفة في لسان العرب للبلق، ومعظمها تنطبق على مواصفات جبل البلق في مارب.
ومن ذلك مثلاً:
– البلق: حجر باليمن يضيء ما وراءه كما يضيء الزجاج( )، وينطبق هذا الوصف على المرمر الشفاف المستخرج من جبل البلق في مارب، ويوجد منها بعض حجارة وأعمدة معبد أوام ومحرم بلقيس في مارب وصناعة التماثيل الشفافة منه.
– والبلق: الباب في بعض اللغات( )، وهذا الوصف أيضاً ينطبق على اللغة اليمنية؛ فنحن نسمي الباب: البلق. وفي جبل البلق في مارب مسناة اليمن الشرقية حيث بني سد مارب التاريخي عند فرجة الجبل وثغرته وكأنه بوابة الجبال هناك.
– وبلقه يبلقه بلقاً وأبلقه: فتحه كله، وقيل فتحه فتحاً شديداً، وأغلقه: ضد. وانبلق الباب: انفتح، [ومبلق: أداة الفتح والحفر]، ومنه قول الشاعر:
فالحصنُ منثلمٌ والباب منبلقُ
وفي حديث زيد: فبُلِق الباب: أي فتحه كله( ).
– والبَلُّوق والبلُّوقة، والفتح أعلى: رملة لا تنبت إلا الرخامي. قال ذو الرمة في صفة ثور:
يرود الرخامى لا يرى مستظامه ببلوقةٍ إلا كبير المحافر( ).
ويكاد هذا الوصف قيل في جبل البلق بمارب؛ فهو في أطراف مفازة رملية، وينبت الرخام أيضاً.
– وقال أبو خيرة:
البلوقة مكان صلب بين الرمال كأنه مكنوس، تزعم الأعراب أنه من مساكن الجن( )، وكثيرة هي الأوصاف التي أوردها ابن منظور في هذا الباب تكاد تنطبق على بلق مارب.
ومن هنا تتعاضد الصفات والمسميات والألفاظ التي ربما كونت إسم (بلقيس) كصفة تطلق على ملكة سبأ. وبالإضافة إلى اللفظ السابق (بلقس) يمكننا إضافة اشتقاق للفظ آخر، وهو أن المعينيين والقتبانيين والأوسانيين والحضرميين – ما عدا السبئيين والحميريين- يحولون الضمير المتصل بالأسماء والأفعال وهو (الهاء) إلى (س) فيقولون مثلاً عن اللفظ السابق “بَلَقه” (بلقس)، ولما كان العرب يطلقون الياء عوضاً عن الكسر، والواو عوضاً عن الضم، والألف عوضاً عن الفتح، يكونون قد مدوا كسر القاف إلى ياء؛ كون الإسم لم يعرف إلا عن العرب ولم يرد في النقوش المسندية بعد.
لا شك أن ولادة هذا الإسم وإطلاقه على تلك الملكة قد يكون له عوامله الداخلية والطبيعية المكانية والحركية، “فما دخان إلا من نار”، كما قيل في المثل اليمني، وحيث إن بداية هذا الإسم لم يكن معروفاً عند الإخباريين والرواة، وكذا في المصادر، فلا بد أنه يكون مروياً شفهياً بالتواتر منذ أمد بعيد قبل الإسلام، كما هو الحال في بعض القصص الشعبية التي لا تؤخذ كلها ولا يُترك جلها، فبعضها كان له واقعية على الأرض، كقصة حاكمة المعافر (نعيم/نعيمة العريقية) مثلاً، فقصة هذه الحاكمة كان لها ما يصدقها على الأرض من خلال المعالم الأثرية التي أثر عنها وعن ملك الدملؤة الذي تزوجته، بحسب تتبعنا لها قصة وآثاراً على الأرض.
فقصتها باختصار تقول: إن الملك المنصوري (نسبة إلى قلعة المنصورة/الدملؤة) أراد أن يتزوجها، وهي حاكمة المعافر في القرن الأول ق.م، فاشترطت عليه مهرها أن يبني فلجاً/ساقية من وادي (موقعة) في أرض سامع ويجريه حتى أسفل قلعة الدملؤة في مدينة الجؤة التاريخية (مسافته قرابة 15 كيلو متراً تقريباً)، وهو ما كان، ولا يزال ذلك الفلج إلى اليوم، ونقش سامع الشهير يعود لها تعدد فيه إنجازاتها، ولها حصن في سامع يسمى (قرن نعيمة)( ).