23.4 C
الجمهورية اليمنية
9:47 صباحًا - 19 أبريل, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

اليمن والسودان ومحنة الديمقراطية

*عبد الباي طاهر :

كثيرة أوجه التشابه بين اليمن والسودان، وبالأخص فيما يتعلق بمحنة الديمقراطية، وإن كانت الديمقراطية في السودان أعمق وأقوى. شرعية الاستقلال في السودان شرعية ديمقراطية. فقد نال السودان الاستقلال بعد ثورة الـ23 من يوليو في مصر، واتفقت دولتا الحكم الثنائي: مصر وبربطانيا، على قيام دولة مستقلة في السودان.

في أول كانون الثاني / يناير 1956، أعلن السودان دولة مستقلة رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري، كرئيس مدني. وفي 1958، قاد إبراهيم عبود انقلاباً عسكرياً ضد الحكم المدني، وكان الانقلاب بداية القطع مع المنحى الديمقراطي، وتصاعد الحرب ضد الجنوب.

يلاحظ الترابط العميق في السودان بين الحكم العسكري، والحروب الداخلية، وبين الانقلابات العسكرية، وهشاشة وضعف الديمقراطية.

ديمقراطية السودان ذات بعد طائفي تتمثل في «حزب الأمة» (الأنصار)، و«الاتحادي الوطني» (الديمقراطي فيما بعد).

تمتد جذور المهدية إلى الحرب الجهادية ضد المستعمر البريطاني، وجذورها القبلية والإسلامية المتطرفة حاضرة، بينما شرعية «الاتحادي الوطني» شرعية الاستقلال السلمي، وكلاهما: «الأمة»، و«الاتحادي»، حزبان إسلاميان. و«الوطني الاتحادي» (الديمقراطي) رأس الاستقلال، كتعبير سياسي عن الصوفية الختمية المرغنية المنتشرة في المغرب العربي، وهو أقرب لمصر أيضاً، وقد كفر الترابي زعيم الحزب حينها محمد عثمان المرغني لتوقيعه اتفاقية أديس أبابا مع جرنج العام 1989.

لا شك أن للديمقراطية في السودان عيوبها ونواقصها، ولكن التفريق بينها وبين الانقلاب العسكري أمر ضروري ومهم. يشير الكاتب خالد المبارك في مبحث له بعنوان «تحديات الديمقراطية في السودان» إلى الفرق بين العقلية الانقلابية، والعقلية الديمقراطية: «الانقلاب يحدث بين يوم وليلة. أما الديمقراطية فتؤتي أكلها بعد سنوات طوال. الانقلاب أشبه باجتثاث جذع شجرة، أما الديمقراطية فهي أشبه بغرس فسيلة، وتعهدها بالرعاية حتى تشمخ. والذي يطالب بالديمقراطية بعد استردادها مباشرة بقائمة طويلة من الإنجازات أشبه بالذي يتوقع من طفل وليد أن يجلس لامتحان الشهادة الثانوية. سيفعل ذلك، ربما بتفوق يوماً ما، بعد أن يحصن ضد الحصبة، وشلل الأطفال، والسعال الديكي، والسل، ويغذي، ويوجه، وتوفر له ظروف حنان ورعاية عاماً بعد عام».

وللأسف الشديد، هذا ما حرمت منه الديمقراطية في السودان؛ بسبب الانقلابات العسكرية المتكررة، وتصاعد الحرب الأهلية فيها.

إنقلاب عبود 1958 كان فاتحة انقلابات كاثرة، واتسعت فيه رقعة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب بسبب جنوح عبود الاستبدادي الشوفيني في فرض الأسلمة، والتعريب، والقمع المضاعف ضد الجنوب، وعدم احترام العقائد والتقاليد، بما في ذلك تغيير يوم الإجازة من الأحد إلى الجمعة، وهي السياسة التي سارت عليها الحكومات، المتعاقبة ديمقراطية كانت أو دكتاتورية. فإلغاء الهوية القومية، والعرقية، والمعتقدات هي سردية انفصال جنوب السودان، في ظل أحكام سبتمبر في عهد النميري 1983. فقد طبقت – في الجنوب المسيحي والوثني – أحكام الشريعة الإسلامية، بما فيها حد الخمر على وثنيين عراة!

شهدت السودان ثلاث انتفاضات. كانت الانتفاضات الأسبق في المنطقة العربية والأفريقية: انتفاضة أكتوبر الشهيرة ضد عبود عام 1964، وانتفاضة أبريل 1985 ضد جعفر نميري، وانتفاضة الربيع العربي في العام 2011، والتي لا تزال متواصلة حتى اليوم ضد طغيان البشير الأكثر طغياناً وفساداً واستبداداً من أسلافه العسكريين.

هناك تلازم بين الدكتاتوريات العسكرية: عبود 1958 ــ 1964، النميري 1969 ــ 1985، والبشير منذ العام 1989، وبين الحرب الأهلية والاستبداد السياسي والديني. تداخل وتمازج الاستبدادين: الديني والسياسي، كارثة السودان المتواصلة منذ الاستقلال. يستغل العسكر ضعف وهشاشة الديمقراطية المحاصرة بهم وبالقوى التقليدية والبنى المتخلفة؛ فينقضون عليها. كان تحالف العسكر، والجبهة القومية الإسلامية ذروة التحول نحو الحرب، و فيه تم قمع التنوع والتعدد اللذين هما السمة الرائسة التي عرفها السودان.

الانتفاضات الشعبية، وهي أداة التغيير الحقيقي في السودان، وضمان وحدته وأمنه وسلامه، جرى الالتفاف عليها بالديمقراطيات المعلولة ذات الولاء الطائفي، وبالعسكرة، والجنوح للحرب، سواء مع الجنوب، أو ضد دارفور.

المأساة أن مرحلة المد القومي في المنطقة العربية، وبالأخص في مصر، رغم أنها سند استقلال السودان، فإنها مثلت إغراء للجنوح نحو الانقلاب العسكري الذي قاده عبود، والنميري، مدعومين من مصر عبد الناصر، والأخير رد على هزيمة 1967.

كانت خطيئة الحزب الشيوعي السوداني الاشتراك في انقلاب النميري 1069 والذي اشترك فيه ضباط قريبون من الحزب الشيوعي: هاشم العطاء، وبابكر النور، وفاروق حمد الله. وذروة الخطيئة انقلاب هاشم العطاء 1971، والذي لعبت مصر وليبيا وسوريا دوراً كبيراً في إفشاله.

قدم المفكر اليساري عبد الخالق محجوب نقداً مريراً للانقلاب، وتبني رؤية مائزة للمجتمع المدني، وأثبت اليسار السوداني الولاء للديمقراطية، وتبني المطالب الشعبية، وعدم الارتهان للعكسرة، أو رؤية الواقع بعيون الأيديولوجيا.

كما قام الباحث السوداني الدكتور حيدر ابراهيم، بتقديم قراءة عميقة ومائزة في كتابيه «التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية» و«الديمقراطية في السودان: البعد التاريخي، والوضع الراهن، وآفاق المستقبل».

اليمن ومحنة الحرب

صك الشيخ صالح عبده الدحان شيخ الصحافيين، أو بالأحرى نحت مصطلح «سوماني»؛ سوداني- يمني. والوقع أن علاقات السودان واليمن مائزة ومتمازجة حد السومنة؛ غذتها الهجرات المتبادلة، والتأثير والتأثر، والارتباط العميق بمصر في البلدين. وما يهمنا هو التشابه الكبير في محنة الديمقراطية هنا وهناك. ففي اليمن نشأ الحيز الديمقراطي في المستعمرة عدن إبان الحرب العالمية الثانية 1940، وكانت الصحيفة العدنية «فتاة الجزيرة» هي الحاضنة الأولى، ثم كانت صحافة المهاجر الحضرمية، وصحافة الأحرار، والصحافة العدنية، والتي وصلت في مطلع الستينيات إلى العشرات، ومثلت مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية والحزبية، كما مثلت الهجرة اليمنية إلى البلدان المتقدمة رافداً مهماً للاتجاهات الديمقراطية والحداثية، وكذلك البعثات الطلابية والعسكرية.

في صنعاء صدرت مجلة «الحكمة اليمانية» 1938 ــ 1941، وكانت مدماك الدعوة للحداثة والتغيير، وتكونت الحركة النقابية العمالية والأحزاب السياسية: «حزب الأحرار» 1944، و«الجمعية الإسلامية الكبرى»، و«رابطة أبناء الجنوب»1951، ثم الأحزاب الحديثة: «البعث»، و«حركة القوميين العرب»، والتيارات الماركسية، والناصرية، والإسلامية.

كانت التعددية السياسية والنقابية العمالية، والمنتديات الأدبية والثقافية، والمسرح والفنون والآداب هي المدماك الأساس في نشأة وتطور الحركة الوطنية الديمقراطية.

في اليمن، كما في السودان، تفاوت في تطور المجتمع، كما أن التركيبة المجتمعية معقدة، والمجتمع القبلي قوي مدجج بالأمية والسلاح في مناطق كثيرة.

فشل تحقيق الاستقلال عبر النضال السلمي الديمقراطي بسبب تعنت الاستعمار البريطاني في الجنوب، وانغلاق سبل التغيير في المتوكلية اليمنية القروسطية ــ فتح السبيل أمام الانقلاب العسكري في صنعاء 26 سبتمبر 1962، والكفاح المسلح في الجنوب 14 أكتوبر 1963.

الانقلاب السبتمبري في صنعاء تحول إلى ثورة شعبية غامرة امتدت إلى اليمن كلها، بينما أنجز الكفاح المسلح الاستقلال في الجنوب بقيادة الجبهة القومية.

الانتصار الوطني ــ عبر الحرب ــ في الشمال، والعمل الفدائي في الجنوب قوى عضلات القوة في الشمال ذي البيئة القبلية المتينة، خصوصاً من حول صنعاء، وشمال الشمال.

إزدهرت تجارة الحرب والسلاح، واستطاعت القبائل «المجمهرة» ــ بالتحالف مع قوى سياسية ومجتمعية ــ الانقلاب على الثورة السبتمبرية في العام 1967، وكانت قوى الثورة في الشمال والجنوب ذات أفق ضيق وتستهين بالديمقراطية؛ فالسلاح وسيلة التغيير الوحيدة.

حرب السبع سنوات في الشمال، وإن انتصرت للثورة والجمهورية، إلا أن المستفيد الأكبر منها كان المجتمع القبلي، وشيوخ القبائل الكبيرة التي انقضت على الثورة، وأعاقت بناء الدولة المدنية العصرية والحديثة التي دعا إليها المقدم إبراهيم الحمدي العام 1974.

في الجنوب، غذت اتجاهات «السلطة تنبع من فوهة البندقية» جنوح الروح الفدائية المنتصرة بالسلاح، وارتد السلاح الذي كان بالأمس مُشْرَعاً ضد الاستعمار إلى الداخل. غياب الأفق الديمقراطي، والميل المجنون للصراع، أدى إلى إلغاء الأنموذج الديمقراطي الذي ازدهر في عدن، وإلى حد ما حضرموت، إبان الحرب العالمية الثانية، ولعب المحيط الخليجي، وتحديداً السعودية، دوراً مشهوداً في دعم الثورة المضادة، وتأجيج الصراعات الموجودة أصلاً. ويقيناً، فإن للصراع العربي – الإسرائيلي، والصراع الدولي، والصراع العربي – العربي أثراً سلبياً على التجربة اليمنية.

كما في السودان، كانت العسكرة والحروب، والصراعات الكالحة في اليمن سبب رائس فيما وصلنا إليه، وكانت الوحدة اليمنية في الـ 22 من مايو 1990 بمثابة مصالحة وطنية بين الجنوب والشمال، وبين القوى الحاكمة: «المؤتمر الشعبي» و«الاشتراكي»، وقد أفسحت السبيل، وبموجب الدستور المستفتى عليه، للتعددية السياسية والحزبية التي كانت مجرمة في الشمال والجنوب، وفيها صدرت عشرات الصحف المعبرة عن طيف سياسي وفكري واسع، لكن قوى صالح، والإسلام السياسي انقلبا على الوحدة السلمية، وفرضا وحدة معمدة بالدم لا تزال جراحها تنزف حتى اليوم.

حروب صعدة الستة، وحروب كاثرة، كلها أدت إلى تفكيك الوطن، وتمزيق نسيجه المجتمعي، وأعادته إلى ما قبل عصر الدولة التي عرفتها اليمن قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين.

حروب 94 ضد الجنوب كانت وأداً للديمقراطية، والتصالح والتسامح وبداية حروب كارثية ومتواصلة حتى اليوم.

الثورة الشعبية السلمية ثورة الربيع العربي 2011 كانت المنعطف الجديد والأهم، وقد جرى خنقها بالحرب، والانقلابات المكرورة: انقلاب محسن و«الإصلاح» في الـ 22 من مارس 2012، وانقلاب صالح و«أنصار الله» في 21 سبتمبر 2014.

وتبقى جذوة الانتفاضة الشعبية في السودان، ونذر الاحتجاجات المدنية في اليمن.

  • الرئيس الاسبق لنقابة الصحفيين اليمنيين

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد