بلال الطيب :
بعد وفاة «الهادي» محمد بن «المتوكل» أحمد «يناير1843»، عاد علي بن «المهدي» عبد الله، إلى تولي الإمامة، وتلقب هذه المرة بـ «المهدي»، لم يعارضه من بني عمومته أحد، وبدأ عهده بإطلاق المعتقلين، والإحسان حتى لمن أساؤوا إليه، كان وطنياً أكثر من سلفه، لم يهادن الانجليز قط، بل دعا إلى قتالهم، وأعد العدة لذلك، وقاد في نفس العام جيشاً كبيراً لذات الغرض، وحين وصل إلى «قعطبة»، طلب من سلطان لحج أن ينظم إليه، ثم ما لبث أن غير رأيه، وعاد أدراجه خائباً، بعد أن علم أن الإنجليز توجسوا من حملته خيفة، وأعدوا العدة لملاقاته.
تجددت معارضة «المهدي» من قبل محمد بن يحيى بن «المنصور» علي، وهو أمير قاسمي، سبق وتوجه مع أبيه إلى تهامة، قبل «15» عاماً، لتتبدى من هناك طموحاته السلطوية، ذهب إلى القاهرة بعد خروج قوات محمد علي من اليمن، ليعود منها بعد عامين، مرتمياً في أحضان الشريف حسين بن علي حيدر «صاحب أبي عريش»، وحاكم اليمن باسم «الدولة العثمانية»، والذي كان حينها قد أتم سيطرته على معظم نواحي «اليمن الأسفل»، ونكل بـ «مستوطني بكيل» فيها.
توغل محمد بن يحيى في مناطق «اليمن الأعلى»، بمساعدة مائزة من «صاحب أبي عريش»، أعلنت القبائل الشمالية ولائها له تباعاً، حاول «المهدي» إيقاف تقدمه، ولكن دون جدوى، ليجنح الأخير بعد معارك غير متكافئة للسلم، وفي «نقيل يسلح» أعلن تنازله وبايع الإمام الجديد «يونيو 1845»، وذلك بعد عامين ونصف العام من توليه الإمامة.
تلقب الإمام الجديد بـ «المتوكل»، دخل صنعاء، فدانت له، أظهر الحزم في مواجهة القبائل، وآثر مصلحته على كل شيء، وكان أقرب إلى مذهب السنة، عين العلامة أحمد بن محمد الشوكاني مكان أبيه، قاضياً للقضاة، وأفتتح بنفسه قراءة «سنن الترمذي» في الجامع الكبير، حدثت بسبب ذلك بلبلة كبيرة، سارع في إخمادها، ونفى مفتعليها لستة أشهر.
في تلك الأثناء، واستمراراً للحملات العسكرية الجهادية ضد الانجليز، أعلن من المخا إسماعيل بن علي بن حسن الحسيني دعوته للجهاد، وهو أحد أشراف مكة، ألب العوام للاحتشاد، وجمع حوالي «6,000» مقاتل، جلهم من سكان «اليمن الأسفل»، وتوجه بهم منتصف العام «1846» صوب عدن، لم يُقدم له «المتوكل» أي دعم، ولا «صاحب أبي عريش»، وعند وصوله لحج، تظاهر سلطانها بتنازله له، وانصياعه لأوامره، كما انضمت إليه مجاميع من قبائل «الفضلي» و«العبدلي»، لتقضي المعارك والأوبئة على أغلب مقاتليه، وعلى حين غفلة منه ومن أنصاره، نجح أحد «بدو أبين» في اغتياله، كما نجح الانجليز في اختراق القبائل المجاورة، وشراء ولاءاتها.
مع بداية حكمه، أرسل «المتوكل» محمد بن يحيى بهدايا قيمة لـ «صاحب أبي عريش»، فما كان من الأخير إلا أن رد له الجميل، وأعاد له معظم مناطق «اليمن الأسفل»، كتعز وغيرها. لم يدم الود بينهما طويلاً، اختلفا، ودارت بينهما حروب كثيرة، أنتصر في أخرها إمام صنعاء، أسر غريمه، وحبسه في «قلعة القطيع»، ثم أكمل طريقه جنوباً، أستعاد بعض مناطق تهامة لبعض الوقت، ثم ما لبث أن انسحب منها لأسباب قاهرة.
يقول أحد المؤرخين: «وبقي الشريف أسيراً مصاباً، ثم توجه “المتوكل” إلى زبيد، بقي أياماً، ثم توجه إلى المخا، وبقي أياماً، فبلغه توجه “يام” على زبيد وحصاره، فما وسعه إلا الفرار نحو حيس، وطوى المراحل ورجع صنعاء»، وكانت ابنة «صاحب أبو عريش» قد توجهت قبل ذلك إلى نجران، استنجدت بـ «قبائل يام» لإنقاذ أبيها، وتحريره من الأسر، وهو ما كان، وذلك منتصف العام «1848»، كما أنها ـ أي الفتاة ـ أشترت ولاء القبائل المساندة لـ «المتوكل»، ولهذا السبب خذلوه، وأنظموا لغريمه وتركوه وحيداً.
يقول «صاحب الحوليات»: «ولما استقر أمر الأشراف في تهامة، صاحوا بالأمان لأهل زبيد، فرجعوا، فلما استقروا بأهلهم وشرعوا يتسببوا، وأخرجوا دفائنهم، أهدروهم الأشراف والبغاة مرة ثانية، وقتلوهم ونهبوهم، وفجروا بنسائهم، أصابهم الله كيف فعلوا، وما ذنب هؤلاء الضعفاء».
أما «المتوكل» محمد، وأثناء عودته من تهامة، فقد قامت مجاميع من «ذي محمد» بقيادة أحمد بن صالح ثوابة، بنهب عساكره، الأمر الذي أغضبه، وجعله بمجرد وصوله يريم ينكل بتلك القبيلة شر تنكيل، فرقهم في البقاع، وحبس كبيرهم «ثوابة» في ذمار.
بعد رجوعه إلى صنعاء، بعث «المتوكل» بالحسين بن «المتوكل» أحمد والياً على يريم، الشهير بـ «الذعرور»، وهناك اجتمع الأهالي ونصبوه إماماً، تلقب بـ «المنصور»، وناصرته قبيلة «ذو محمد» بإيعاز من كبيرهم «ثوابة»، الذي كان في الحبس، خرج «المتوكل» إلى «الذعرور» مغاضباً، تحاربا، ثم أصطلحا، وبالحيلة نجح الأول في احتجاز الأخير، تفنن بتعذيبه بالشمع، وسامه سوء العذاب.
أما كبير «ذو محمد» أحمد بن صالح ثوابه، فقد أخرجه «المتوكل» من الحبس، وأمر بإعدامه على الفور، وفي ذلك قال الشاعر أحمد بن لطف الباري الزبيري:
وانجلى عثي الضلالة لما
شهر الملك سيفه من قرابه
وقضى الله أمره في ذوي الزيغ
وأمضى عقابه في «ثوابة»
مع بداية العام «1849»، أرسل الأتراك في الحجاز جيشًا قوامه «3,000» مقاتل، أحتل الحديدة وأجزاء من تهامة، فابتدأ بذلك التواجد التركي الثاني في اليمن، وقد ذكر «الواسعي» أن «صاحب أبي عريش» ذهب بعد تحريره من الأسر إلى «الاستانة» مُستنجداً بالسلطان عبدالمجيد بن محمود، فيما ذكرت مصادر أخرى أن مفتي تهامة محمد بن عبدالرحمن الأهدل أستنجد بالأتراك بعد أن عاثت «قبائل يام» الإسماعلية، و«القبائل الزيدية» في بلاده نهباً وخراباً، وأن السلطان وجه بتحريك تلك الحملة، لنجدة التهاميين من ذلك البطش.
الغريب في الأمر أن «المتوكل» نفسه فرح بقدوم تلك الحملة، واستنجد بها هو الآخر ضد القبائل الزيدية المناوئة له، وأستقبلها بنفسه في حدود مملكته، ومدعاة ذلك الفرح، يعود في الأصل لصدور فرمان سلطاني بتعيينه حاكماً على صنعاء، وتبعية اليمن لـ «الباب العالي»، تم إذاعة الفرمان بخطبة الجمعة في الجامع الكبير بصنعاء «11يوليو1849»، وهو الأمر الذي مهد للثورة ضد الأتراك ونائبهم الجديد، كما سيأتي.
تمكن توفيق باشا «والي جدة» من دخول صنعاء «4 أغسطس»، ولأن أمر التمرد والثورة كان قد بيت في ليل، سارع فقهاء الزيدية المتربصين من فورهم بتأليب العوام، ولم يعدموا الذريعة، أشاعوا أن الأتراك يمارسون الرذائل، ويعاقرون المسكرات، وهو الأمر الذي نفاه «الكبسي» بقوله: «ثارت العامة على الجند السلطاني، وهم حينئذ قليلون آمنون، ولم يصدر منهم ما يوجب ذلك».
قتل الثائرون غدراً الكثير من الأتراك، ثم أعادوا علي بن «المهدي» عبدالله للإمامة للمرة الثالثة، وقد تلقب بـ «المهدي» ثم «الهادي»، عمل على تأمين خروج من تبقى من الأتراك، ثم وجه بضرب عنق خلفه وسلفه «المتوكل» محمد، وقد كان الصريع ـ حسب توصيف «العمري» ـ من أكفأ الأئمة المتأخرين، وأكثرهم مقدرة وذكاء، إلا أنه جاء في وقت صعب داخلياً وخارجياً، كما أن سياسته الانتهازية أودت به في آخر المطاف، وقد شبهه بالخليفة الأموي مروان بن محمد، الذي لم تنقذ كفاءته الشخصية دولته من السقوط.
أستغل غلاة الزيدية تلك الأحداث، وقاموا بالتنكيل بعلماء السنة المعتدلين، يقول «صاحب الحوليات»: «ثار بعض شرار الخلق على بيوت القاضيين الفاضلين محمد بن محمد العمراني، وعبدالرحمن العمراني، وأفزعوهم، وأخرجوهم من البيوت بعد أن أخذوا جميع ما يملكون، وهتكوا أعراضهم، وكذلك الفقيه عبدالله وسيل الهندي، صنع به الغوغاء ما صنع ببيت العمراني، ونسبوا إليهم النصب وبغض أمير المؤمنين».
وإلى ذلك أشار «سلفاتور أبونتي» بقوله: «عندما دخل الألف وخمسمائة رجل من العثمانيين الذين استحضرهم الإمام محمد بن يحيى في صنعاء، هاج الشعب اليمني وأشتد غضبه، فارتكب الكثير من أعمال العنف، وسالت الدماء أنهاراً، وغزا العاصمة وهدمها على من فيها، وقتل الإمام شر قتلة، وبذلك سقطت البلاد في الفوضى، وعمَّ الفساد».