بلال الطيب :
ما إن صفت اليمن للأئمة من «آل القاسم»، وخلت من مُعارضيهم، حتى طغى «حُكم الإقطاع»، وُزعت البلاد بين الأمراء الطامِحين، وإذا ما مات أحد أئمتهم، تشبث الواحد منهم بما تحت يديه، القوي يتمدد، والضعيف ينكمش، تلاشت حينها الاستدلالات التي تؤكد أحقيتهم في الحكم، وغُيبت شروط الإمامة التي وضعها الجد المؤسس، وتحولت الإمامة من دولة دينية إلى مملكة إقطاعية يَحكُمها الأكثر طغياناً.
وفيهم قال ابن الأمير الصنعاني:
مزقتم شمل هذا القطر بينكم
كل له قطعة قفر وعمران
وكلكم قد رقى في ظلم قطعته
مراقي ما رقاها قبل خوان
في «8 جماد الآخر 1087هـ»، وبعد ثلاثة أيام من وفاة «المتوكل» إسماعيل، أعلن من الغراس أحمد بن الحسن بن القاسم نفسه إماماً، وتلقب بـ «المهدي»، ليعارضه أخوه الحسين من ذمار، مُتلقباً بـ «الواثق»، والقاسم بن «المؤيد» محمد من شهارة، مُتلقباً بـ «المنصور»، فيما استمر «المنصور» علي بن أحمد في دعوته من صعدة.
ومن غير الأسرة القاسمية، أعلن أحمد بن إبراهيم المؤيدي من العشة، وعلي بن الحسين الشامي من خولان، وعبدالقادر شرف الدين من كوكبان، ومحمد بن علي الغرباني من برط، أنفسهم أئمة، كان الأخير من أكبر مُعارضي «آل القاسم»، كتب فيهم عدة رسائل ناقدة، قال في إحداها شعراً:
ومثل ما يفعل نجل الحسن
في اليمن الأسفل من أرض اليمن
من حيل للمال سراً وعلن
كثيرة تجري على غير سنن
لا حق ما تؤتي بلا أثمان
عمَّت الفوضى البلاد، وشاع السلب والنهب وقطع الطرق، وفي ذلك قال «أبو طالب»: «وانتهب أصحاب مولانا علي بن المتوكل سوق جبلة، وتكاثرت الدعاة سيما بالقبلة، وانقطعت الطريق ما بين إب وجبلة إلى سمارة، وأكثر كل من يتعاطى الأمر بجهته الغارات»، فيما قال صاحب «الجامع الوجيز»: «واتفق استيلاء أولاد السيد عبدالله بن الإمام على قصر ذمار، وانتهاب ما فيه، ووقعت فتنة بين أصحاب الحسن المؤيدي والسيد جعفر الجرموزي بضوران، كما قامت فتنة أخرى بصعدة».
حين بلغ الصراع مداه، تنحى كلٌ من «الواثق» الحسين، و«المنصور» علي، لـ «المهدي» أحمد، فيما تنحى «المؤيدي» لـ «المنصور» القاسم، أما «الغرباني» فـ «تارة يبايع، وتارة يظهر بقاءه على دعوته»، حد توصيف «الشوكاني»، وقيل أنه فرَّ بعد أن خذله الأنصار إلى نجران.
اللافت في الأمر، أن الأمير محمد بن أحمد بن الحسن حاكم الحجرية ـ صاحب المواهب لاحقاً ـ وقف ضد والده، مُسانداً لـ «المنصور» القاسم، وجه «المهدي» أحمد ولده علياً لمحاربته، إلا أن الأخير توفي في يفرس قبل أن يكمل مهمته، فيما استمر محمد رافعاً راية العصيان، مُتحصناً بقلعة المنصورة.
«المنصور» القاسم هو الآخر ظل مُتحصناً بشهارة، مُتمسكاً بالإمامة، ولم يتنازل عنها مُجبراً إلا بداية العام «1088هـ / 1677م»، بعد أن قاد «المهدي» نحوه أكثر من «7,000» مقاتل، وفتك بالكثير من أنصاره، ليجعله بعد ذلك حاكماً على ما كان تحت يديه من مناطق، وكذلك فعل مع ابن عمه علي بن أحمد في صعدة، وولده العاق محمد بالحجرية، مُضيفاً للأخير بلاد حيس، مؤسساً بذلك لحكم أمراء الإقطاع.
رغم أنه لم يستوفِ شروطها، حاز «المهدي» أحمد الإمامة بالقوة، وقد نقل صاحب «أنباء الزمن» عمن بايعوه قولهم: «ما بايعناه إلا حسبة لا إمامة»، وكان لقلة علمه في أمور الدين يعتمد على النجوم في أسفاره، ويرجع إلى سؤال المُنجمين في غالبية أحواله.
وذكر صاحب «بغية المريد» أن عدد من العلماء انكروا عليه ما بيده من أموال عند بيعته، فأبرز لهم مرقوما بختم عمه «المتوكل»، فيه وهب بجميع الأموال التي غنمها من صاحب عدن وأبين الأمير الحسين بن عبدالقادر، وخاطبهم بالقول: «وكل ما ترونه بيدي وأتقلب فيه من نعمة المال، هي من تلك الغنائم التي غنمناها نحن والمجاهدون من أموال ذلك الأمير وأصحابه، الذين تعتقدونهم عاطلي المذهب، أما أنا فأعتقدهم من كفار التأويل».
قضى «المهدي» مُعظم سنين عمره بين لهيب المعارك، كقائد أعلى لجيوش عمه «المتوكل»، ولأن مُعظم هجماته كانت تتم ليلاً، عُرف بـ «سيل الليل»، كان كثير البطش بخصومه، وقد نقل ابن عمه المؤرخ يحيى بن الحسين عنه قوله: «وأما قتل النفوس في زمن المتوكل فهو عندي من أقرب القرب».
وفي عهده أيضاً، كما أفاد ذات المؤرخ: «ارتفع شأن الشيعة، واستظل تحت حمايته من كان على شاكلته في الرفض»، فقد كان «جارودياً» مُتعصباً، بل أنه ولشدة كرهه للصحابة، أمر بكشط أسماء الخلفاء الراشدين من محراب الجامع الكبير بصنعاء.
ويروى أنه كتب ذات مرة لعمه «المتوكل» إسماعيل من مدينة تعز، مُعترضاً على إمامة فقهاء الشافعية في المساجد، كونهم حد وصفه يعلمون الناس عقائدهم الخبيثة، وأضاف: «وأن عذر الأئمة من قبلك واضح لعدم تمكن الوطأة، فما عذرك عند الله في السكوت عن ذلك، وقد تمكنت الوطأة».
اليهود أيضاً لم يسلموا من أذيته، عمل على القضاء عليهم، بعد أن دخل في نقاشات مع فقهاء مذهبه، جنح غالبيتهم لرأيه المُجيز لنفيهم من البلاد «الزيدية»، وبالفعل نفاهم إلى موزع، بعد أن خرَّب دورهم، ونهب مُمتلكاتهم، وهدم كنيسهم، وابتنى مكانه مسجد الجلاء، وذلك بعد ثلاث سنوات من إمامته، فامتدحه لذلك محمد السحولي، بالقول:
إمامنا المهدي شمس الهدى
أحمد سبط القائم القاسم
له كرامات سمت لم تكن
لها دوي قبل أو قاسم
لو لم يكن منها سوى نفيه
يهود صنعاء أخبث العالم
وجعله بيعتهم مسجدا
لساجد لله أو قائم
كثير ما اقترن ذكر اسم مناطق حرف سفيان وبرط في كتب المؤرخين بأعمال التقطع والنهب، وقد نقل صاحب «طبق الحلوى» في وقائع العام «1080هـ» أحداثاً مُتصلة، مُتهماً سكان ذات القبيلتين بالتقطع للمسافرين، ونهب ممتلكاتهم، ناقلاً في كتابه أكثر من حادثة تؤكد ذلك، لترتفع وتيرة تلك الأعمال بعد وفاة «المتوكل» إسماعيل، ليوجه خلفه «المهدي» أحمد حملة لإيقافها «1090هـ»، إلا أنه لم يكتب لها النجاح.
مع استمرار تلك الأعمال المُشينة، استنجد أحد التجار بـ «المهدي»، فرد عليه: «امض على رسلك، وفي أمان الله وأماني»، لتنهب في حرف سفيان قافلة التاجر، وقتل ولده وصحبه، وقطعت يده، فما كان منه إلا أن حمل يده المبتورة ورماها في حضرة الإمام، وخاطبه: «هذا أمانك»، اشتاط الأخير غضباً، وخرج مطلع العام «1092هـ / 1681م» إلى حرف سفيان بجيش جرار، قتل وأسر وخرَّب، واسترد أموال كثيرة.
لم يُمهل القدر «المهدي» أحمد بعد خروجه ذاك كثيراً، توفي في الغراس مُتأثراً بجراحه «22 جماد الأول 1092هـ»، عن «62» عاماً، بعد أن كتم أمر رصاصة اخترقت فخذه الأيمن، سبق وأطلقها عليه أحد قطاع الطرق، وقد رثاه علي بن ابي الرجال بقصيدة طويلة نُحتت على ضريحه، جاء فيها:
فطهر أقطار البلاد بسيفه
ومهدها للقائم المتوكل
وسار إلى لحج وأطلال خنفر
بكل فتى ماضي العزيمة فيصل
وفي يافع لم يبق للقوم نافع
من السيف في يوم أغر محجل
وفي حضرموت فل حد جيوشهم
وحكم بيض الهند في كل مقتل