31.8 C
الجمهورية اليمنية
10:42 مساءً - 4 مايو, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

المهدي ودجال مدوم

 بلال الطيب :

بتولي «صاحب المواهب» محمد بن أحمد الإمامة «1097هـ / 1688م»، بدأ تنافس الجيل الثالث من «آل القاسم» على الحكم، انحصر صراعهم بصورته الفظيعة شمالاً، إلا أن تبعاته تجاوزت الجغرافيا الزيدية، والأسوأ أنه أسس لانقسامات كارثية، دفع القاسميون وأنصارهم ثمنها كثيراً.

علويون كُثر عارضوا «صاحب المواهب» عام توليته، فمن خارج أسرته جدد «المتوكل» الحسين بن عبدالقادر دعوته من كوكبان، ومن «مسور ـ خولان»، أعلن علي بن حسين الشامي نفسه إماماً، ومن «فللة ـ صعدة» دعا لنفسه الحسن بن صلاح المؤيدي.

ومن داخل الأسرة القاسمية جدد عدد من الأمراء دعوتهم، وبسببهم لم يهنأ «صاحب المواهب» بالإمامة لحظة، وعنهم جميعاً قال صاحب «الجامع الوجيز»: «وبعد موت المؤيد بن المتوكل إسماعيل افترق آل الإمام فرقاً.. فطمع الكل بالإمامة، وكادت تقوم القيامة.. وصارت الأرض جيفة، وفي كل قرية خليفة».

استقر الصراع «القاسمي ـ القاسمي» في جولته الأولى بين «صاحب المواهب» في منصورة الحجرية، و«المنصور» يوسف بن «المتوكل» إسماعيل في ضوران ذمار، حظي الأخير بدعم ومساندة غالبية الأمراء، كان عبدالله ابن منافسه أحدهم، سبق وأنَّ سيطر على مدينتي إب وجبلة، إلا أن والده تنكر له، عزله، وجعل صنوه إسماعيل بدلاً عنه.

انضم الأمير المعزول لصف «المنصور»، وكذلك فعل عمه إسحاق، وكانا من جملة المحاصرين لقلعة المنصورة، وقد صور الشاعر سعيد السمحي المشهد على لسان الإمام المحاصر:
أخٌ وابن صلب وابن عم تحالفوا
فما تتقي منهم رياح عوابث
ولو كان رمح واحد لاتقيته
ولكنه رمح وثان وثالث

بعد انتصاره عليهم، قَويت شوكة «صاحب المواهب»، قبض على ولده عبدالله، وصنوه إسحاق، وزج بهما وعدد من الأمراء في سجونه، وفي الأسيرين قال محمد المرهبي:
ظفر الإمام بصنوه وبنجله
فيها، وما المظفور ضد الظافر

غادر «صاحب المواهب» الحجرية «1098هـ»، ليأمر فور وصوله ذمار بإعدام الفقيه زيد الجملولي، القادم لتوه من صنعاء، حاملاً معه بيعة الحسين بن «المتوكل» إسماعيل، وقيل أن الصريع كان من جملة المتآمرين على قتل «المؤيد الصغير».

أما «المنصور» يوسف، فقد غادر ضوران، أذن له «صاحب المواهب» ـ بعد أن أخذ بيعته ـ بالذهاب إلى صنعاء، ليغادرها بعد عامين إلى خولان، مجدداً من هناك دعوته، صحيح أن أهلها كاتبوه ووعدوه النصرة، إلا أنهم تنكروا له، فما كان منه إلا أن غير مساره صوب برط، وفي الطريق سعى به بعض الوشاة، وكان مصيره السجن لـ «17» عاماً.

انتقم «صاحب المواهب» من أهالي خولان شرَّ انتقام، وفي ذلك قال «أبو طالب»: «وأما أهل خولان والحيمة فنكل بهم، وأوطأ أرضهم الخيل، وأباد خضراهم، وسلط عليهم أهل بلاد همدان وغيرهم، فأخربت الديار، وقطعت الأعناب، وشجر البن، وشمل المجيب وغير المجيب، وعوملوا من الترويع بكل عذاب شديد».

ومن رداع، جدد «الواثق» الحسين بن الحسن دعوته «1098هـ»، دارت بينه وبين ابن أخيه «صاحب المواهب» حروب وخطوب، كانت بادئ الأمر سجالاً، نجح منافسه بعد عامين في استدراجه، أوهمه أنه الأحق بالإمامة، وفرق بالخديعة أنصاره، وقبض عليه، وسجنه لـ «10» سنوات.

ومن عمران، جدد «المتوكل» الحسين بن محمد أبو طالب دعوته، وقيل من خمر، لم يظفر «صاحب المواهب» به، فظفر به ملك الموت، وهو ابن أخ «المنصور» علي بن أحمد «صاحب صعدة»، التالي ذكره.

لم يتخلى «المنصور» علي عن دعوته، ظل مُسيطراً على صعدة وضواحيها، تنازل له نسبه الحسين بن عبدالقادر، وإليه هرب عدد من الأمراء القاسميين، فخاطبهم «المرهبي» قائلاً:
أبلغ بني القاسم في صعدة
نصيحة ما مثلها يكتم
يا سادة الناس هلموا إلى
مولاكم الناصر كي تغنموا
وإن تطيعوه يطع قيصر
لكم وتعنوا الجيل والديلم

أمراء وأعيان كُثر هربوا من طغيان «صاحب المواهب»، ومن صعدة توجه أغلبهم إلى مكة، نذكر منهم: الحسين بن «المتوكل» اسماعيل، وأخيه الحسن، وابن أخيهما حسن بن «المنصور» يوسف، وعبدالله بن يحيى، والحسين بن عبدالقادر، والشاعر أحمد الآنسي.

لم يطل بقاءهم هناك كثيراً، ليتحول الشاعر الآنسي بعد عودته إلى نصير بارز لـ «صاحب المواهب»، بعد أن كان قد ألب عليه شريف مكة أحمد بن غالب بقصيدة طويلة، سبق ودعاه فيها لنجدة اليمن، جاء فيها:
فأنهض إلى اليمن الميمون قد عبثت
به الأراذل أهل البغي والعطب
ومنهم من دعا للحق مُحتسباً
بزعمه وهو أطغى من أبي لهب
تبت يداه وأيدٍ بايعته على
ما يدعي إنها حمالة الحطب

لم يأتِ الشريف أحمد لنجدة اليمن؛ بل وصل إليها مُستنجداً «1102هـ»، بعد أن وقع بينه وبين الاشراف من «آل زيد» خلاف انتهى بتغلبهم عليه، وبتحريض منه، عزم «صاحب المواهب» على محاربة «صاحب صعدة»، رغم انشغاله بمحاربة «اليوافع»، وإلى ذلك أشار «أبو طالب»: «وكان الشريف قد طمعه القبض على علي بن أحمد، وأن يخطب له على منابر الحرمين».

في العام التالي، أرسل «صاحب المواهب» بجيش كبير إلى صعدة، بقيادة صنوه طالب، أُسر الأخير، فيما تقدم «المنصور» جنوباً، استقر بالروضة مدة، وعين الولاة على ما تحت يديه من مناطق، جاعلاً الحسين بن عبدالقادر على كوكبان، لتنقلب عليه أثناء حصاره لصنعاء القبائل، عاد أدراجه مُنكسراً، وتعرض وأصحابه للنهب والتنكيل.

شكر «صاحب المواهب» للقبائل صنيعها، وصاح لأهل همدان بـ «الأمان، وأذن لمطرودهم بالرجوع إلى الأوطان»، وقبض على الحسين بن عبدالقادر، وحبسه لسبع سنوات بسجن غمدان، ثم وجه جيوشه المعززة بالمدافع شمالاً، بقيادة ولده إسماعيل، وصنوه الحسن.

لم تصمد صعدة كثيراً، هرَّب صاحبها بعد هزيمته إلى قلعة «أم ليلى»، وفيها تحصن، تاركاً أسرته لمصيرهم، تقوى في العام التالي جانبه، دارت معارك شرسة، أسفرت عن «1,000» قتيل، كان الأمير إسماعيل أحدهم، عاود «المنصور» بعد انتصاره السيطرة على صعدة، وقد كانت إمامته رغم دهائه شكلية، سعى «صاحب المواهب» بكل الوسائل لكسبه، أطلق أسرته، إلا أنه لم ينجح في استمالته.

في العام «1104هـ» أرسل «صاحب المواهب» بشريف مكة أحمد بن غالب والياً على «أبي عريش»، ضم الأخير لولايته صبيا، وبنى هنالك قلعة جازان الأعلى، لتحدث في العام التالي مناوشات محدودة بينه و«صاحب صعدة»، انتهت بتحالفهما، علم «صاحب المواهب» بذلك، فأرسل له بجيش كثيف بقيادة عز الدين القطبي، لم ينجح الأخير في القضاء عليه، فيما نجح الوزير عبدالله المحرابي بإقناعه بالعدول عن تمرده، ليغادر الشريف اليمن إلى تركيا.

رغم انتصاراته؛ حيَّد «صاحب المواهب» بني عمومته، ونكل بهم، وقتل بمجرد الظنون كثير من أنصاره، وشاع عنه أنه كان يأتيه في الليل من يخاطبه بأن يقتل فلانا، وينهب مال فلان، ويعطي فلانا، ويمنع فلانا، فإذا كان النهار عمل بذلك، كما اشتهر بـأخذه للجبايات بدون وجه حق، وبتغييره للعملة كل عام، الأمر الذي دفع بعض العلماء لاعتباره ملكاً لا إماماً، حشد لهم كثير من المبررات الواهية، كشفت بمجملها صدق اعتقادهم، أظهر التقشف والزهد، وكان دائماً يمرغ جبينه في الأرض شاكراً لله، فسمي بـ «صاحب السجدة».

في العام «1111هـ»، ظهرت فتنة إبراهيم المحطوري، دعا الأخير من «مدوم ـ حجة» لنفسه، وتلقب بـ «المنصور»، وهو من نسل القاسم العياني، كان بارعاً في علم الطلسمات والشعوذة، وكم نهب من أموال، وسفك من دماء؛ بحجة أن سيفه يأمره بذلك، وفيه قال أحمد الآنسي:
ألا قل لإبراهيم دجال مدوم
تشابهت لما أن ضللت عن الرشد
فإن يك سحاراً فقد لقي العصى
وإن يك دجالاً فقد لقي المهدي

أرسل «المهدي – صاحب المواهب» عساكر كُثر للقضاء عليه، وحين فشلوا اضطر لتجهيز جيش أكبر، لم يصمد «المحطوري» أمامه كثيراً، هرب شمالاً، قبض «صاحب صعدة» عليه، صلبه مدة، ثم احتز رأسه، وبلغ عدد ضحايا فتنته حوالي «20,000» قتيل.

مارست القوات الإمامية جرائم حرب في حق أنصار «المحطوري»، قال عنها «أبو طالب»: «فلا زال اللاحق بهم حتى ملئت بهم الأوساط من والأطراف، فانتهب الجند جميع ما فيه، واستبيحت النساء، وقتلت الأطفال»، ليتمرد في أواخر ذات العام شيخ «المحطوري» محمد السودي، توجه إليه القاسم بن الحسين بجيش كبير، إلا أن ذلك المُتمرد أنهكه بعدة كمائن، قتلت من جنده الكثير.

وصلت حينها تعزيزات إمامية، فكانت هزيمة «السودي» ماحقة، وعن ذلك قال «أبو طالب»: «فغزوا إلى أطراف البلاد، وقتلوا من أهلها قتلاً ذريعاً بمثله لم يسمع، وانتهبوا من البقر والغنم ما ضاق به الفضا.. وهرب السودي من تحت السيف، وصلحت المغارب جميعها بعد الشرف».

بعد قتله «المحطوري»، أرسل «صاحب صعدة» برسالة لـ «صاحب المواهب»، استثار فيها غيرته، وقال له أن القاسم بن الحسين ـ والي «حبور ـ عمران» ـ هو الأصلح للأمر منهما، ليس حباً في الأخير؛ بل لأنه كان يتربص منه شراً، الطريف أن الخدعة انطلت على «المهدي»، وقام بالفعل بعزل ابن أخيه.

في العام «1113هـ» أرسل «صاحب المواهب» بوفد كبير لـ «صاحب صعدة»، كان الشيخ صالح حبيش أحد أعضاءه، قادته طباعه المتعالية بأن يوعد بما ليس بمقدور صاحبه أن يفي به، وفي المواهب حصل الخلاف بينه وسيده، وتحقق لـ «المنصور» ما يريد.

عاد حبيش إلى قبيلته «بكيل» مُتمرداً، استغل أدعياء الإمامة ذلك، كشروا عن أنيابهم مرة أخرى، لتتوزع القبائل بعد سلسلة من الاستقطابات بينهم، حروب كثيرة دارت، ونفوس بريئة قتلت، ومدن عامرة نهبت، وقرى خالية خربت، والنصر كالعادة كان لهذا الإمام أو ذاك، أما الدم فكان وما زال من رأس القبيلي.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد