22.7 C
الجمهورية اليمنية
11:26 صباحًا - 23 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

العياني وخذلان الأقارب

بلال الطيب :

وضع «الهادي» يحيى بن الحسين اللبنات الأولى لدولة «الإمامة الزيدية» في اليمن، إلا أن أحفاده الأوائل اختلفوا وفشلوا في المحافظة عليها، فما كان من أنصارها اليمنيين إلا أن بحثوا عن وجه علوي جديد يجدد حضورها، جَاعلين من جُغرافيتهم المُستلبة قِبلة للوافدين الباحثين عن الزعامة والأنصار، وساحة صراع كبيرة، كانوا وما زالوا أكثر ضحاياه.

بحث أنصار الزيدية عن شخصية علوية قَوية ومُؤثرة، تَلّم الشمل، وتُرضي الأتباع، فلم يجدوا أمامهم سوى القاسم بن علي بن عبدالله، من نسل القاسم الرسى، راسلوه، وقطعوا انهماكه في التأليف، وأحضروه من مقامه في جبال «السراة» من بلاد «خثعم ـ عسير»، وبايعوه في صعدة إماماً.

تلقب القادم الجديد بـ «المنصور»، وسبق له وأن أعلن من بلاد «خثعم» نفسه إماماً «383هـ / 994م»، إلا أنَّ أمير مكة «الفاطمي» عيسى بن جعفر قبض عليه بعد شهور من دعوته، وأخذه أسيراً إلى القاهرة، ثم أفرج عنه، وسمح له بالعودة إلى مَقامه في عسير، ومنها توجه جنوباً مرتين.

في رحلته الأولى «388هـ»، دانت له «نجران، ووداعة، وبكيل»، ساءته بعد ذلك أموراً من بني عمومته، فعاد أدراجه إلى «تبالة ـ عسير»، ويؤكد ذلك قوله في إحدى رسائله: «فسلمت للجميع البلد، فعملوا الكتاب الذي عملوا، فلما رأت العرب الفتنة قصدوني حيث اعتزلت»، وقد أعطوه حينها «10,000» درهم من زكاة أموالهم، ليستعين بها في تصريف شؤون دولته.

كان الإمام «الهادوي» الضعيف «الداعي» يوسف ومعظم أحفاد «الهادي» مُقيمين حينها في صعدة، وهم المعنيون في ذلك الخطاب، عارضوا «المنصور» بعد وصوله الأول، واستقبلوه أثناء وصوله الثاني بعسكرٍ عظيم «محرم 389هـ»، جلهم من «بني سعد»، هدم دربهم، وطرد أنصارهم، وحين جنحوا للسلم، ولى بعضهم، وقرر لهم ـ لبعض الوقت ـ نصف حاصلات صعدة، وجعل على ذات المدينة ولديه جعفر، ثم سليمان.

وفي حضرة الإمام الجديد وقف الحسين بن أحمد الهمداني مادحاً:
وجدد دين جدك بعد درس
وأورد من ينازعك الِحمَاما
فهمدانيك قومي قد أطاعوا
وهم يدُك التي تروي الحساما
وخولان الحما لهم ظهيرٌ
لدى الهيجاء يُجلُّون الظلاما

لم يكد «المنصور» القاسم يستقر في «عيان ـ حرف سفيان» ـ التي إليها نُسب ـ حتى وصله خبر مقتل أحد معاونيه، من قِبل أفراد من «الربيعة»، خرج إليهم مُغاضباً، وزاد من رغبته في الانتقام أنهم من مناصري «الداعي» يوسف، قتل منهم نيف وسبعين رجلاً، وهدم حصونهم، وخَرَّب زروعهم، وطمر آبارهم، وقال في هزيمتهم شعراً:
وولوا هزيماً في البلاد وغادرو
ديارهمو مبذولة للعساكر
وأشعلت ناري في الحصون ونلتها
بهدم فعادت كالتلال الكنادر

في الوقت الذي كانت قبيلتا «سعد» و«الربيعة» متذبذبتين حول نصرته، توجه «العياني» إلى الجوف «جماد أول 389هـ»، بدعوة من «بني الدعام» مشايخ «بكيل»، ثم توجه إلى «البون» بدعوة من أحمد بن قيس بن الضحاك شيخ «حاشد»، ومن حجة جاءت إليه قبائل المغرب مبايعة، ومعينة بالمال، قبله منهم، وجعل على تلك المناطق الولاة من بني عمومته.

ومن الطائف أقبل عليه القاسم بن الحسين الزيدي مؤيداً ونصيراً، وهو بالأصل «حسيني» من أحفاد زيد بن علي، فرح «العياني» بمقدمه، وعينه نائباً له على صنعاء، أخذها الأخير من الزعامات القبلية المُتصارعة، ومنها مدَّ نفوذه إلى ذمار وعنس.

في مطلع العام «390هـ»، تمرد «بنو خيثمة» في نجران، وقتلوا عاملين من عمال الإمام، توجه «العياني» إليهم بجيشٍ كبير، قوامه «4,270» مقاتلا، توافدوا عليه من معظم مناطق «اليمن الأعلى»، ضبط أمور تلك الجهة لبعض الوقت، ودمر حصن «الدحامس»، وأسر «60» خيثمي.

ما إن رجع «العياني» إلى «عيان» حتى «ثار الناس إليه، يلثمون يديه وقدميه» ـ كما أشار «كاتب سيرته» ـ مطالبين إياه بالمسير معهم جنوباً، فرد عليهم: «يا أخوة العرب، لي أشغال تريثني عن ذلك، ولكني قد صرفت ولاية بلدانكم جميعاً إلى أخي هذا، وابن عمي القاسم بن الحسين الزيدي»، وفيهما قال أحد شعراء صنعاء:
قسَّم القاسمان فينا الأمانا
فبلغنا من الصلاح رضانا
وأعادا مذاهب العدل فينا
وأزالا الطغاة والطغيانا
حسني أتى فأحسن فينا
والحسيني زادنا إحسانا

انتقد «العياني» في كتبه «الاثنى عشرية»، وخالف «الهادي» في بعضها، ووافقه في مسألة تفضيل سلالتهما، وفي رسالته التي بعثها لأنصار «الزيدية» في «طبرستان»، قال: «أما تعلمون رحمكم الله وهداكم، أنَّ أصل الهلكة منذ بعث الله سبحانه آدم عليه السلام لهذه الغاية، لم يكن إلا بالاحتقار للأنبياء صلوات الله عليهم في أيامهم، وبالذرية بعدهم إلى أن تقوم الساعة».

لم تدم المودة بين «العياني» وأحفاد «الهادي» كثيراً، هَمَّش «الداعي» يوسف، وعَزل يحيى بن «المختار» القاسم، وإبراهيم بن «المنتصر» محمد الشهير بـ «المليح»، فما كان من الأخير إلا أعلن تمرده «جماد أول 390هـ»، لتدور في صعدة مواجهات محدودة بين الجانبين، دفعت المدينة ثمنه كثيراً، أنهزم «المليح» في آخرها، وفرَّ ناجياً بنفسه إلى نجران.

كان «بنو الحارث» قبل ذلك بشهرين قد أعلنوا تمردهم، فما كان من «العياني» إلا أن كاتب القاسم الزيدي يستحثه بالقدوم إليه، وقال في رسالته: «وقد بلغني على أن المعاملة بينهم ـ يقصد أحفاد الهادي ـ على أن يخالف أهل نجران، ويكون لهم مركز ببلد الربيعة من خولان، ولم أكذب بذلك، وكل أقاربي زنادقة، عدو لله ولي.. وقد بدا ما قد ترى، وأنت إمام هذا الأمر، وسيف هذه الدولة الموثوق به».

لم يستجب «الزيدي»؛ فاجتمع لـ «العياني» أكثر من «5,000» مقاتل، جلهم من همدان، قادهم بنفسه صوب نجران «شعبان 390هـ»، وألزم تجار صعدة بنفقاتهم، تولى من الوهلة الأولى جمعه، فخسر المعركة، وخسر أكثر من عشرين رجلاً من أنصاره، عاد أدراجه مُعاتباً من خذله، مجدداً العزم على العودة إلى تلك الجهة مرة أخرى.

لم يكد ينتهي ذلك العام، حتى أعاد «العياني» الكرة على نجران، بعد أن طاف بين القبائل طالباً النصرة، واجتمع له منها جيش كبير، أمر جنوده بقطع النخيل، وهدم الحصون، وما إن حمى الوطيس، حتى ولى جمعه الأدبار، وتركوه وحيداً في قلة من الأنصار، كانت هزيمته ماحقة، قتل «70» رجلاً من أصحابه، أبرزهم ابن عمه الحسن بن عيسى، فعاد أدراجه خائباً، يائسا من تلك الجهة وإصلاحها.

لم ينس «العياني» لـ «الزيدي» تخليه عنه، بدأ بمعاتبته، ثم تهميشه، الأمر الذي حفز الأخير على التمرد، مُستقلاً بحكم المناطق التي تحت يديه، ثم ما لبث أن تراجع عن ذلك، راسل الإمام، والتقيا في «مدر ـ أرحب» للمصالحة، ودخلا صنعاء معاً «محرم 391هـ»، وكانت تلك أول مرة تطأ فيها قدم «العياني» المدينة.

لم يدم ذلك الود طويلاً، تجدد الخلاف، عزل «العياني» نائبه «الزيدي» عن صنعاء، وحصره في ذمار، وجعل ولده جعفر بدلاً عنه، لم يحسن الأخير إدارتها، فأعلن «الزيدي» تمرده مرة أخرى، مُتحالفاً مع «الداعي» يوسف – الحلقة الأضعف في ذلك الصراع – ثم توجه بقواته إلى صنعاء، أسر جعفر وعدداً من إخوته، ولم يفرج عنهم إلا بعد أن تنازل له والدهم عن معظم ما تحت يديه.

رغم أن «العياني» صفح عن أحفاد «الهادي»، وجدد الصلح معهم، وأعطاهم مقابل ذلك ربع خراج صعدة، إلا أنهم جددوا ومن ذات المدينة تمردهم عليه، طردوا ولده سليمان، بعد أن أتهموه بمعاقرة الخمر، وهدموا داره، وساعدهم في تماديهم ميلان «بنو سعد» إليهم، وإلى إبراهيم المليح العائد لتوه من نجران.

لم يسع «العياني» حينها غير التذمر والشكوى، فأرسل إليهم بقصيدة طويلة مُعاتباً، جاء فيها:
كفروا بعهدي واستباحوا ذمتي
أضحوا لها بين الأنام خضوعا
وحمى المليح من أقام بأرضه
قسراً فأصبح قوله مسموعا
يا سعد يا سعد التي لم يختشِ
منها الخيانة قد خسرت سريعا

أن يتخلى أقرب الناس عنك؛ فمعناه أن تعيش وحيداً، وتبقى أسير همومك، وهذا ما حصل لـ «العياني» أواخر عمره، وفيه قال «المطاع»: «وتنكرت له الأيام، وخذله الأقارب، وخانته الأنصار»، نزل بعد ذلك على حكم القضاء، وانكمش في دار عزلته، حتى اعتلت صحته، وفي «عيان» حانت منيته «9 رمضان 393هـ»، عن «83» عاماً، أعلن حينها مُنافسه «الزيدي» نفسه إماماً، بيد أن القدر لم يمهله، ليتوفى مطلع العام التالي في مدينة ذمار، وقيل أنه مات مقتولاً.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد