بلال الطيب :
«التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة»، وتاريخ «الإمامة الزيدية» وفق هذه المُعادلة التي خُلص إليها الفيلسوف الألماني هانريك ماركس، عبارة عن أحداث مُملة تتكرر، وصريع مرير لا يتوقف، وصعود مُستمر صوب الهاوية.
على مدى تاريخها، تـعاقب على حُكـم «الإمامة الزيـديـة» في اليمن، أكثر من «100» إمام، وما من أحدٍ من هـؤلاءِ، إلا ووصل إلى الحكم على نـهـرٍ من الدمـاء؛ إما في حـروب عبثيـة اعتـادوا العيش في أجـوائها، أو في صراع أُسري بينَ إمـامٍ وأخـر، وقد سجـل التاريخُ وجـودَ أكثر من دولة، وأكثر من إمام، في نفس الحقبة، وفي نفس المُربع «الزيدي».
استجلبوا جميع مساوئ التاريخ، وغلفـوها بمساحات شاسعة من القهر، والذل، والحرمان، وشـرعنوا لحكم «سلالي ـ كهنوتي»، كـان ـ ومـا يزال ـ سبـبـاً لجميـع رذائـلنا الاجتماعية والسيـاسية، أبدعـوا وبدعوا في الاستيلاء على البلاد، وفشلوا في إدارتها؛ لأنَّ مشروعهم في الأساس قائـم على السيطرة والاستحواذ، لا الإدارة والحكم، قـادوا البلاد والعباد بما أملته عليهم رغباتهـم الفجـة، وفَصّلوا فقهاً سياسياً يشملهم بكل الخيرات، ويستثني كل اليمن.
مـارسوا العبث على عباد الله، في حياتهم وممتلكاتـهم، فـ الاستبـداد المُطلق، كان عنـوان حكمهم، وهويتـه اللصيقـة به، والطغيان الأحمـق، كان سلوكهم اليـومي الذي يتباهون به، حاربوا منـابع التنـوير، من مـدارس، وجامعات، ومسـاجـد، وجعـلـوا منها خصماً لـدوداً يستحـق التدميـر والنسـف، ورأوا في المُتعلميـن، ودعـاة الحـرية، أعـداء لهم وللـدين.
كانوا يقولـون أنَّهم يَحكمـون بـأمر الله، وبـاسم «الحق الإلهي»، في صـورة مشابهة لتلك التي حدثت في أوربا إبانَ العصورِ الوسطى، مكررين ما قاله «جيمس الأول» ملك بريطانيا ذات يوم، بـ «أنَّ الملوك يـَمشُـون على عـَرش الله في الأرض»، وما مـن استبداد سياسي – كما قال الكواكبي – إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، والطغاة ـ كما قال علي الوردي ـ يعبـدون الله، وينهبـون عباد الله في آن واحد.
أقـاموا حُكمهم على جَماجم البَشر، وهيـاكل الشعارات الدينية الزائفة، غَـذى جُنـونـه شـوق عـارم للسُلطة والنفـوذ، ورغبـة جَامحة لاستعباد الناس، والتَحكم بمَصائرهم، وحين صـار وجودهم حقيقـة ثابتة، وأصل من أصـول الدين، عمدوا على محـو هوية اليمنيين، وطمس حضارتهم، وإثارة خلافاتهم، وتشويه قبائلهم.
أنعشوا أسوأ ما في القبائل الشمالية، وخلقوا لها المبررات العقائدية، لجعل «الفيد» دين، و«التسلط» رجولة، أغـرقوا أبناءها في الجهـل والتوحش، وجرعوهم المعتقدات المسمـومة، ثم أطلقوهم على الفـريق الآخر كـ «الذئـاب المسعورة».
رسخوا فيهم التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، جعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِهن الحرفية، والأشغال التجارية، وأصبح الشخص الذي يُمارس التقطع، قبيلي لا تلحقه أي منقصة، فإذا ما أراد أن يأكل الخُبز الحلال، مُشتغلاً بأي مهنة، يُصبح نَاقصاً فاقـداً طُهره القبلي، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» و«تهامة»، قتلوا، ونهبوا، ودمروا، جهاداً في سبيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.
تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمُجتمعٍ هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة، ومُتصارعة، طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ»، أسوأ حقيقة وأشنع مثال، وما «الكارثة الحوثية» إلا امتداد لذلك «التاريخ الآثم»، أطلت بارزة القسمات واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التـوجـس من المُستقبـل له ألف سبب يبرره.
«الإمامة الزيدية» بخارطتها الحالية، تعيش أسرع تمدد، وأسوأ انكماشة، وعبد الملك الحوثي إمامها المتوج لم يحيـد قيـد أنملة عن تلك الوسائـل العُنصرية والاستعلائية التي انتهجها أسلافه؛ بل كـان الأسوأ، والأغبى، والأكثر تهوراً، بسرعة خاطفة التهم الجغرافيا، وبعنجهية متوارثة أذل الانسان، بمساعدة لاعبين «محليين» و«خارجيين»، كانوا يرونه وسيلة انتقام لا أكثر.
وبتحليل نفسي عميق، لشخصية هذا الإمام الكارثة، نجد أنه شخص مَريض، مَطحـون بمشـاعر الدونية والعجز، تُسيره طموحات غيبية اتكالية، ذات طابع كابوسي، أنتقم من الجميع شر انتقام، ولم يستثنِ حتى نفسه، وجماعته، وأولئك السُذج الذين ساندوه، وما يزال حتى اللحظة يهرول صوب حتفه، منتشياً بـ «الصرخة»، وزعيق «ما نبالي»!!.