26.1 C
الجمهورية اليمنية
12:55 صباحًا - 4 مايو, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

صناعة الإرهاب

عبد الباري طاهر:

بعيداً عن عقلية المؤامرة، أو التفسير البوليسي للتاريخ، أمام أعين وبصر العالم، وتحديداً في نهاية العام 1979، غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان التي يتمتع فيها بنفوذ في الجيش، وبها مجموعات ماركسية، وقومية ماركسية أيضاً. يتدخل الاتحاد السوفيتي تحت ذريعة طلب الحكم الجديد “حماية النظام”، وتهب أمريكا وأوربا، في ظل الصراع الدولي المحتدم، والثنائية القطبية لهزيمة السوفيت، كرد على هزيمة أمريكا وحلفائها في فيتنام.

تدعو أمريكا للتجنيد، وتقوم دول الخليج بالتجنيد والتمويل، وتكون البلدان العربية، وبالأخص الفقيرة كاليمن، ميداناً للتجنيد، ووجدت الأنظمة الموالية لأمريكا في الصراع الدولي، والحركات والأحزاب الإسلامية، المجال مفتوحاً وواسعاً؛ لرفع راية الإسلام السياسي؛ ولإبراز العداء العقائدي للشيوعية؛ ولكسب رضا أمريكا؛ وتعميق التحالف مع العربية السعودية ودول الخليج الداعمة والممولة للحرب. والحقيقة أن الحرب في أفغانستان – بإعطائها الصبغة الدولية- وفرت مناخاً لازدهار الإسلام السياسي، وهمشت وأضعفت حركات التحرر الوطني القومي واليساري، وبالأخص الماركسي الموالي للسوفيت.

البلدان الإسلامية والعربية منها بخاصة انخرطت في الحرب، سواء عبر التجنيد، أو عبر التمويل والمساندة، وفتحت في بلدان كالسعودية واليمن وغيرهما بيوت الضيافة للمجندين، وجرى ما يشبه تجارة الحرب في الحصول على أموال المتبرعين، واستثمارها في بناء قوة مليشاوية ومالية. ما إن انتهت الحرب بهزيمة السوفيت حتى برزت مشاكل آلاف ومئات الآلاف من الشباب الذين ذهبوا لنصرة الإسلام والمسلمين، مع أن الحرب- رغم الدخان الكثيف- صراع دولي يوظف المعتقدات.

تلقى الشباب تدريباً عسكرياً، واكتسبوا خبرات قتالية، وخاضوا معارك حقيقة ضد جيش دولة عظمى، ثم أيضاً جرى تربيتهم تربية جهادية شديدة الغلو والتطرف الذي تتبناه حركات الإسلام السياسي لدى أكثر المنظرين تشدداً : أبو الأعلى المودودي، سعيد حوى، عبد الله عزام، سيد قطب، وتلعب الوهابية وسلفية ابن تيمية الحراني وابن قيم الجوزية وابن كثير دوراً كبيراً في التثقيف الإسلاموي.

خرج الشباب المجاهد تاركين قراهم وأسرهم ومدارسهم ليجدوا أنفسهم متهمين بالتطرف والإرهاب، وتوجه لهم التهم من الدول التي جندتهم، وحتى الدولة التي قاتلوا دفاعاً عنها تنبذهم وتتهمهم. ذهب بعضهم إلى البوسنة والهرسك، وبعضهم إلى الشيشان، وبعضهم عادوا إلى أوطانهم ليشكلوا فرقاً إرهابية قولاً وفعلاً ضد أوطانهم الكافرة، حسب اعتقاداتهم الجديدة، معتقدين قدر تهم على تحريرها كما حرروا أفغانستان. وإذا كانوا قد استطاعوا (بالإيمان) دحر أقوى إمبراطورية على وجه الأرض وإسقاطها، فمن السهل هزيمة أنظمتهم الضعيفة والهشة والعميلة، وهو نفس الشعور الذي خالج اليسار الجديد بعد هزيمة أمريكا في فيتنام؛ فالانتصارات الكبيرة تخلق أوهاماً أكبر!

اعتقدت التيارات السلفية في إيران بعد الانتصار على نظام الشاه، وهزيمة سادس جيش في العالم، أنه زمن الظهور، وأن ولاية الفقيه هي المقدمة الضرورية والأساس لظهور الإمام، وامتد التأثير السحري إلى كل الطوائف الشيعة في مختلف بلدان العالم الإسلامي “السني ” والتي تعيش حالة من التكفير والإقصاء والنبذ . أما انتصار أفغانستان للتيارات السلفية السنية فهو بشير عودة الخلافة الإسلامية، وحقق لتيار الإخوان المسلمين والتيارات السلفية بصورة عامة دافعاً قوياً لأسلمة الحياة كلها، ومثّل الانتصار الدليل النظري والعملي على صحة نظرية “الأسلمة ” التي دعا إليها منظروهم، ووجهوا سهام نقدهم ضد الاتجاهات اليسارية والقومية وحتى الليبرالية أو الإسلامية المستنيرة في أوطانهم، وأوغلوا في التكفير والتخوين والتفسيق حتى للتيارات الإسلامية المعتدلة داخل صفوفهم، ولم تكن الدولة بعيدة عن تغذية وتشجيع هذا الصراع حد الصدام.

لم يدم الانتصار طويلاً فما إن جرى تفجير برجي التوأم في 11 سبتمبر 2001 ، حتى قلب الأمريكان ظهر المجن لتيارات الإسلام السياسي، وأعلنت الحرب على هذه التيارات، وجرى وصمها بالإرهاب، وإعلان الحرب عليها وشيطنتها، وسايرتها الأنظمة الصديقة.

لا يمكن قراءة التطرف والإرهاب فقط من خلال فكر وثقافة التيارات السلفية، سواء المرجع الأساس الإمام أحمد بن حنبل، أو فتاوى ومؤلفات أحمد بن تيمية الحراني الكاثرة، أو تلاميذه كابن القيم وابن كثير، وصولاً إلى محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، وابن باز ومقلدي الوهابية، أو تيار الإسلام السياسي الحديث: البنا، قطب، أبو الأعلى المودودي، وكتابه المصطلحات الأربعة إنجيل الحركات القطبية وما تناسل منها. ولا يمكن التوقف عند المرجع الحديث (العمدة في إعداد العدة) لسيد إمام الشريف، ولا بتلاقح تيار الإخوان المسلمين بالوهابية في الخمسينات والستينات والتسعينات على خطورتها وأهميتها، ولا حقبة البترودولار، أو صعود النظامين: الإيراني والتركي، ودعاوى التبشير بولاية الفقيه وأزوف عصر الظهور، وأثر ذلكم على التيارات الشيعية، وبروز حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن، والطبيعة الطوائفية لنظامي العراق وسوريا، وانتصار الإسلام السياسي في تركيا ومرسي في مصر؛ فهي فعل ورد فعل في الأغلب .

إن التطرف والإرهاب لا يمكن أن يحصر في دين أو عقيدة محددة أو أيديولوجية بعينها أو قومية أو شعب، وإنما الاستعماريون والطغاة والمستبدون هم من يوظف الملل والنحل لأغراضهم الاستعمارية والسياسية؛ فلهذه الأغراض يجري توظيف المقدس والاعتقادات والأيديولوجيات.

لقد ترك الاستعمار آثاراً تدميرية في الكرة الأرضية، ولا تزال آثاره في غير بلد، والاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني في فلسطين جريمة الاستعمار البريطاني محمي ومؤزر بأمريكا، وبالسياسة الاستعمارية، وقد وظف الاستعمار التبشير الديني والتمدين والتحضير ومحاربة الهمجية والوثنية والكفر كما يفعل دعاة الأسلمة اليوم؛ فالحملات الاستعمارية التي غطت مساحات شاسعة من الكرة الأرضية، واحتلت مناطق واسعة من القارات الثلاث: آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية لعدة قرون كانت تتقنع المقدس والتمدن والتحضر، ولكن جوهر وجودها نهب الثروات، وفرض السيادة المطلقة، ومسخ إرادة الأمم والشعوب التواقة للاستقلال والسيادة والحرية.

أسهم الاستعمار في إقامة أنظمة تابعة بعضها أسوأ وأقسى من الاستعمار نفسه، مارست كل ما فعله الاستعمار وما عجز عن فعله، تركت شعوبها تترحم على الاستعمار.

الازدواج في أنظمة الحكم الثورجية؛ فهي تحارب الاستعمار دعائياً وتتبنى وترسخ أسوأ ما في نهجه وسياساته: تصادر الحريات العامة، والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وتدعي ممارستها. تحارب الإسلام السياسي بحجة أنها الأحرص على الإسلام وعلى التقيد بقيمه ومثله، وتغرق في العنف والفساد والاستبداد؛ فهي صانعة إرهاب بامتياز .

عندما بزغ فجر الربيع العربي أعلنت أمريكا وأوروبا ترحيبها كما لو كانت هي صانعته . القوى الجديدة النابعة من إرادة الأمة ومن قاع شعوبها انبهرت بهذا الترحيب. كانت الثورات الشعبية احتجاجاً مدنياً سلمياً عفوياً وتلقائياً، تحول بسرعة إلى ثورة شعبية حقيقية . تيار الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون) سرعان ما برز إلى الواجهة كقوى منظمة، وبشعاراتها الديماجوجية استولت على المنصات والخطاب والميل للانفراد. تهاوت الأنظمة، سقط ابن علي في تونس، وحسني في مصر، وتصدع النظام في ليبيا وقتل القذافي، وعسكر بشار الحياة، وحولها إلى حرب ذات أبعاد مقيتة، وانقسم النظام في اليمن على نفسه ليسقط في يد حلفائه.

تحالف الإسلام السياسي مع العسكر في مصر، واندغموا في سوريا مع القوى المختلفة، وكان النظام من فرض لعبة الحرب. كان الاستثناء تونس، وبدون الاغترار بالتقارير الاستخباراتية عن تنسيق يجري هنا أو هناك بين بعض الأنظمة الخليجية أو العربية وتركيا وأمريكا وبريطانيا وإسرائيل، فإن الشيء المشاهد والمدرك بالحواس كلها أن هذه الدول ضالعة في خلق تيارات الإرهاب منذ أفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان، وفي البلدان العربية؛ فالقاعدة والدولة الإسلامية ومفرداتهما الكريهة لم تنزل من السماء، ولم تخلق من عدم، وإنما هي ثمرة كريهة لمناهج تربوية وسياسية واقتصادية في هذه البلدان، ووفر الصراع الدولي وهيأ لها المناخ المناسب للصعود.

الكل تشارك في تسليم العراق لإيران، ثم لتوريد القاعدة والدولة الإسلامية لإسقاط العراق في زمن قياسي، وتدمير حضارة وكيان وآثار العراق الممتدة لآلاف السنين وتدميره ككيان وكبلد، وتشارك الجميع في ذلك بقيادة أمريكا . أما سوريا فالنظام الأسدي وهذه المجموعة أيضاً تشاركا في ضرب سوريا وتدميره ككيان وكبلد وتقتيل أبنائها وتشريدهم .

لا يختلف الأمر في ليبيا أو اليمن أو السودان . الجميع تشارك في صنع الإرهاب، ولكن هل يمكن الحديث عن التراتب في هذه الصناعة؟ كل طرف شارك حسب الاحتياج والمقدرة . بالأمس كان الاستعمار هو الخالق الأكبر للإرهاب، ومنذ القرن الماضي أصبحت أمريكا أكبر صانع للإرهاب، تليها الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، ثم تأتي الأحزاب والمنظمات والقوى المؤدلجة وذات العصبيات المتخلفة: دينية، أويسارية، أو قومية،

و”من الخليج إلى المحيط، من المحيط إلى الخليج.. كانوا يعدون الجنازة، وانتخاب المقصلة…

ومن اليمين إلى اليسار، من اليسار إلى الوسط.. شاهدت مشنقة فقط، شاهدت مشنقة لمليوني عنق”.

محمود درويش

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد