22.7 C
الجمهورية اليمنية
1:16 مساءً - 23 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

غرام وانتقام

 بلال الطيب :

ثلاثة من رؤساء اليمن الشباب لقوا حتفهم خلال «255» يوماً بصورة مُريعة، دفع اليمنيون ثمن تلك الاغتيالات المُمنهجة كثيراً، عاشوا تداعياتها في ذعرٍ دائم، وترقب حذر؛ وكانت الأوضاع – بفعل المُناكفات والاتهامات الشطرية المُتبادلة – مهيأة في أي لحظة للانفجار.

كي ينتقم من قتلة صديقه الرئيس أحمد الغشمي؛ طلب علي عبدالله صالح من المشايخ دعمه للوصل إلى السلطة، ومن السعودية أتت طائرة خاصة أقلت الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر إلى جدة، وهناك أقنع «الأشقاء – مصدر شقائنا» الأخير بضرورة مُساندة الشاب الطامح، فيما تولى صالح الهديان المُلحق العسكري في السفارة السعودية بصنعاء – الرجل الأول في اليمن حينها – مَهمة إقناع باقي المشايخ المُعترضين، وهكذا أصبح «صالح» رئيساً للشمال «17 يوليو 1978م»، وسارع المـُحللون بالتنبؤ بأن الكرسي المـُلتهب سيلفظه خلال أسابيع مَعدودة.

لم يلفظ الكرسي المُلتهب «صالح»، ولم يبدأ حربه الانتقامية؛ بل بدأها الجنوبيون، وسيطرت قواتهم المُتحفزة على عدد من القرى والمدن الشمالية «24 فبراير 1979م»، وسارع المُحللون بالتنبؤ بأن سقوط النظام الشمالي – الغارق حينها في إشكالات كثيرة – صار وشيكاً.

«نعم نحن بدأنا الحرب، إذا ربحنا سنخلق اليمن الكبرى، وإذا خسرنا ستتدخلون لحمايتنا»، هكذا رد مسؤول جنوبي على السفير السوفيتي في عدن؛ بعد أن أبلغه اعتراض السوفيت على تلك الحرب، لم يتدخل الأخيرون لصالح الجنوب، فيما تدخلت الجامعة العربية إلى جانب الشمال، وهددت سوريا والعراق بإرسال قوات مساندة للطرف المُنكسر إذا لم يتوقف القتال.

التقى الرئيسان «صالح» وعبدالفتاح إسماعيل نهاية الشهر التالي في الكويت، وانتهت بلقائهما الحرب، بعد أن خلفت أكثر من «6,000» بين قتيل وجريح، كان الأخير – رغم أنَّه الطرف المُنتصر – أكثر مُرونة، خاطب نضيرة الشمالي قائلاً: «لنتوحد، السلطة ليست مُشكلة، ليكن الوزراء في صنعاء وزراء، والوزراء في عدن نواباً، وصنعاء العاصمة، وأنت الرئيس».

أحيا الرئيسان «اتفاقية القاهرة»، واتفقا على وضع برنامج زمني لتنفيذها، وأوكل إلى السلطتين إنجاز دستور الوحدة خلال أربعة أشهر، وعلى أن يلتقيا بعد ذلك لإقرار صيغته النهائية، وأن يشكلا لجنة وزارية للإشراف على الاستفتاء العام، وانتخاب سلطة تشريعية مُوحدة خلال مدة أقصاها ستة أشهر.

أقنع «صالح» المشايخ المـُعترضين والمدعومين من قبل الرياض بضرورة المناورة وكسب مزيدٍ من الوقت، فيما وقفت الأخيرة ضد ذلك التقارب، قطعت الدعم الذي كانت تقدمه لصنعاء؛ وترتب على ذلك عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين، كما أوقفت تسليم الشمال بقية صفقة الأسلحة الأمريكية التي اتفق عليها في فترة سابقة؛ ليقوم «صالح» – رداً على ذلك – بإبرام اتفاقية تسلح مع الاتحاد السوفييتي «أغسطس 1979م».

وفي الشطر الآخر أثار موقف «فتاح» المُعارض للحرب حفيظة بعض زملائه المُتشددين، اتهموه بالتواطؤ مع الشمال، ثم بدأوا بالتضييق عليه، وأعاقوا لقاءه المقرر بـ «صالح» في منطقة الشريجة؛ بذريعة أنّه سيتعرض للاغتيال، والأدهى والأمر من ذلك – كما أفاد سعيد الجناحي – أنَّهم حاولوا اغتياله بإسقاط الطائرة التي أقلته إلى ليبيا لحضور مؤتمر «جبهة الصمود والتصدي» صبيحة يوم «13 إبريل 1980م»؛ الأمر الذي جعله يقدم بعد سبعة أيام استقالته، وقيل أنه أجبر على تقديم تلك الاستقالة، وأن مغادرته إلى موسكو كانت لغرض الدراسة لا خوفاً على حياته.

كان علي ناصر محمد أحد المُعترضين على تلك الاستقالة، ليعمل بعد ذلك على إزاحة «فتاح»؛ خاصة بعد أن جعلته قوى «اليسار المُتطرف» في صدارة المشهد، حلَّ محل الرئيس المُستقيل في رئاسة الدولة والحزب، مع بقاءه في منصبة رئيساً لمجلس الوزراء، وصارت بذلك «السلطات الثلاث» تحت يديه؛ الأمر الذي ألب عليه داعميه، وكانت الوحدة واحدة من نوافذ كثيرة للهروب من ذلك الصراع المُتجدد.

وفي المُقابل كان «صالح» أكثر مُرونة في تعامله مع مُعارضيه، شكل لجنة للحوار الوطني مُكونة من «50» شخصاً مُمثلين لكافة القوى السياسية، تمهيداً لتأسيس «المؤتمر الشعبي العام»، فيما جاءت نافذة الوحدة المشرعة لتعزز مواقفه التصالحية، صحيح أنَّ عمليات الاغتيالات والملاحقات الأمنية استمرت في استهداف اليساريين، إلا أن موالين له عزوا ذلك لأذرع السعودية الخفية في جهاز الأمن الوطني، والتي كان يقودها محمد خميس.

تخلص «صالح» من تلك الأذرع، ومن الوصاية السعودية تدريجياً، وبدأ «ناصر» يهمش من ساندوه، ويتصالح مع جيرانه، وبدأت بذلك مرحلة جديدة في مسار الوحدة اليمنية، تجددت لقاءات الرئيسان في كلٍ من عدن، وصنعاء، وتعز لأكثر من مرة، وأيضاً في فاس بالمغرب، وتم الاتفاق على تشكيل «المجلس اليمني» برئاستهما، مارسا من خلاله مُتابعة الاتفاقيات، والإشراف على اللجان المُشتركة، والمصادقة على ما تم الاتفاق عليه.

في النصف الأخير من العام «1981م» وقعت أربع اتفاقيات لوقف إطلاق النار، اثنتان منها خلال شهر واحد، كما تم الانتهاء من إعداد دستور الوحدة نهاية ذات العام، وفي «6 مايو 1882م» اجتمع «المجلس اليمني» بتعز، وحدد لأول مرة عدم تدخل أي من الشطرين في شئون الشطر الآخر، لتتوقف بعد ثلاثة أشهر المواجهات في «المناطق الوسطى» بصورة نهائية.

علق على ناصر محمد على تلك الخطوات بتصريح صحفي جاء فيه: «ووصل النجاح الى حد التنسيق في السياسة الخارجية، والمواقف القومية والدولية مثلما حدث خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وكما تذكرون تجولت وأخي الرئيس علي عبدالله صالح بطائرة واحدة في عدد من الدول العربية لحشد التضامن العربي خلف المقاومة الوطنية اللبنانية – الفلسطينية المشتركة للعدوان، وقد جنينا الفائدة من وراء هذه السياسة وأهمها تحقيق الأمن والاستقرار لليمن».

في الوقت الذي كان فيه الجنوبيون يعيشون على صفيح ساخن، بدأ الشماليون يستقرون سياسياً، أسس الأخيرون «المؤتمر الشعبي العام»، ليملأ التنظيم الأوحد الفراغ السياسي الحاصل، مُحتوياً القوى السياسية الفاعلة، مُتحكماً بتوجيه نشاطها، وصار خطابها أكثر عقلانية، خاصة فيما يخص الوحدة، وجاء في «الميثاق الوطني» ما يؤكد ذلك.

استمر التقارب بين «صالح» و«ناصر»، لينجحا بإيقاف «حرب ثالثة» كانت على وشك الاندلاع؛ إثر اكتشاف النفط على خطوط التماس، التقيا في عدن «31 يناير 1985م»، واتفقا على أن تكون تلك المناطق من مناطق الاستثمار المُشترك للتنقيب على الثروات الطبيعية.

«ناصر» ذو النزعة السلمية في صراعه مع الشمال، فجرها حرباً اهلية ضد رفاقه في الجنوب «13يناير1986م»، استمرت لعشرة أيام، وقتل بسببها حوالي «12,000» مواطن، وعدد كبير من قيادات الحزب، وقيل أقل من ذلك، وخسر الجنوب أربعة مليار دولار حسب تقديرات البنك الدولي، أراد بعض المشايخ الشماليين استغلال تلك الأحداث، وغزو الجنوب، وفرض الوحدة بالقوة، إلا أنَّ «صالح» رفض مطلبهم، وأعلن وقوفه على الحياد.

كان عبدالفتاح إسماعيل أحد أبرز ضحايا تلك الأحداث، سبق لمن انقلبوا عليه بالأمس أن استدعوه قبل عشرة أشهر من منفاه الاختياري، ودخل بسببهم معمعة صراع «مناطقي» أكثر مما هو «أيدلوجي»، حسمه الطرف الأقوى قبلياً، فيما توزع أعضاء «الحزب الاشتراكي» من باقي المناطق بين الفريقين بنسب مُتفاوتة، وقيل أنهم رجحوا كفة الفريق المُنتصر، وهو أمر نفاه جار الله عمر فيما بعد، حيث قال: «الذي حسم الموقف هو الجيش والمليشيات التي قدمت من الضالع وردفان ويافع.. أما دور أبناء الشمال في هذه الأحداث فقد كان دوراَ ثانوياً وجزئياً لا يمكن احتسابه».

لم تأتِ نتائج الحرب لصالح «ناصر»؛ فهرب من محافظته أبين شمالاً، ومعه الآلاف من مُناصريه، فيما حلّ علي سالم البيض محله، وحين تأكد له تخلي السوفيت عنه؛ طالب من «صالح» المساعدة للزحف جنوباً، وتحقيق الوحدة بالقوة، رفض الأخير طلبه، واكتفى بالسماح له بمزاولة العمل السياسي تحت مسمى «الحزب الاشتراكي – القيادة الشرعية»، وإصدار صحيفة «كفاح شعب».

بعد عامين من القطيعة، التقى «البيض» و«صالح» في تعز «17 إبريل 1988م»، وكلفا سكرتارية «المجلس اليمني» باستئناف مهامها، واتفقا على السماح للمواطنين اليمنيين بالتنقل بالبطاقة الشخصية، وعلى إنشاء مشروع مُشترك للتنقيب عن الثروات النفطية.

كان «البيض» حينها مع خيار عدم التسرع بتحقيق الوحدة؛ حتى تحل الأسباب والعراقيل – من وجهة نظره – الحائلة دون ذلك، وقال لصحيفة «لاتينا برس» الكوبية: «يجب أن ندرك أنَّ شعار الوحدة له قوة وجذب كبرى، فالكل، الرجعي، والتقدمي، والوطني، والعميل يرفع شعار الوحدة، ويريد أن تتحقق.. ولذلك علينا أن نُكسب الوحدة محتواها الوطني والشعبي، ولا يجب أن نطلق العنان للحماس والعواطف بحثاً عن الوحدة الفورية، والوحدة بأي ثمن».

فجأة وبدون سابق إنذار، غير «البيض» موقفه «30 نوفمبر 1989م»، وأصبح من دعاة الوحدة الاندماجية الفورية، في حين كان «صالح» يفضل التأني والبدء بتجربة «فيدرالية» أو «كونفدرالية» تستمر لعدة سنوات، وقعا معاً على «اتفاقية الوحدة»، وتجدد لقاءهما في منزل «صالح» بتعز، تعمق الخلاف بينهما حول المادة الثالثة من دستور الوحدة، فما كان من «صاحب المنزل» إلا أن قال في لحظة انفعال: «سنقيم الوحدة بأي شكل من الأشكال، ولو بالقوة»، غادر «البيض» وأصحابه إلى عدن مُغاضبين، لحق به «صالح» وأصحابه مُعتذرين، وحين لم يستقبلهم أحد؛ عادوا أدراجهم خائبين.

سعى «صالح» لإصلاح ما اقترفته لسانه، واستمر تواصله مع «البيض» عبر وسطاء، حتى صفت بينهما الأجواء، ليتكرر لقائهما الثالث خلال أقل من شهر في مدينة صنعاء «24 ديسمبر 1989م»، ومن منصة «ميدان السبعين» ألقى الرئيسين خطابين مُتتاليين، كان أحدهما أكثر حماساً.

بدا «صالح» في ذلك المهرجان أكثر عقلانية، ألقى خطاباً مُختزلاً طمأن فيه الدول المجاورة – وبالأخص السعودية – بأن الوحدة «ليست مُوجهة ضد أحد»، وبأنَّه سيمد يده إليهم من أجل مصلحة الجميع، فيما ألقى «البيض» خطاباً عاطفياً مُطولاً، أكد فيه أنَّ صنعاء وعدن تعانقتا وإلى الأبد، واستشهد بقول الشاعر البحتري:
إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها
تذكرت القربى فسالت دموعها

وأضاف: «لا نريد الدموع، ولن تسيل مرة أخرى، ولن تسيل بعد اليوم، نريد الزهور، نريد غصن الزيتون، نريد السلام، نريد الأمان..».

ومن صنعاء أيضاً، وبعد سبعة أيام من ذلك المهرجان، أعلن على ناصر محمد اعتزاله العمل السياسي، وأصدر بياناً أكد فيه توجهه الجديد؛ برره بالحفاظ على المصلحة الوطنية، ليغادر بعد ذلك اليمن نهائياً؛ تنفيذاً لطلب رفاقه في الجنوب، الذين اشترطوا رحيله، وما هي إلا أربعة أعوام حتى لحقوا به جميعاً.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد