«السبيل.. السبيل»، علَتْ الأصوات بهذه الكلمة، التي انتشرت كالبرق، بمجرد اقتراب شاحنة زرقاء تحمل صهريج مياه سعة (3000 لتر)، من وسط حارة المناخ بحي المرور غرب مدينة تعز، التي تعد ثاني أكبر تجمع سكاني في اليمن، والمحاصرة بفعل الصراع المسلح والدامي، الذي تعيشه منذ عامين ونصف.
على وقع هذه الكلمة السحرية «السبيل» – وتعني وصول المياه التي توزع مجاناً من قبل المنظمات الدولية مثل «اليونيسف» ورجال الخير- هرع العشرات من سكان الحي، معظمهم أطفال ونساء، حاملين معهم «قناني» بلاستيكية متنوعة الأحجام.
الطفل أمجد عبدالقوي سعيد (13 عاماً)، كان يعبئ المياه وسط الحشد مثلما يفعل عادة منذ أكثر من عامين ونصف، كونه الوحيد في الأسرة الذي يقوم بهذه المهمة، كحال معظم أطفال تعز ونسائها، بفعل انشغال أرباب الأسر بالبحث عن لقمة العيش.
ضخ المياه من الصهريج استمر نحو نصف ساعة، ومن مجموع عشر قناني بلاستيكية، خرج بها من المنزل، أتيح لأمجد تعبئة خمس فقط، ثلاث منها سعة 20 لتراً، واثنتين عبوة 10 لترات.
وحول حصيلته من المياه يقول: «بعض الأحيان أحصل على ثلاث قناني كبيرة (20 لتراً)، وأحيانا خمس، وقد تصل إلى عشر في أوقات نادرة لا يكون فيها ازدحام شديد كهذا».
مياه «السبيل» ليست المصدر الوحيد لأسرة أمجد، فهم – كمعظم الأسر – يقومون بشراء المياه التجارية حسب تأكيده، مستدركا: «لكنها لا تكفي، لذلك نلجأ لمياه السبيل».
منذ بدء الحرب في محافظة تعز التي تعاني أزمة مياه مزمنة، توقف ضخ المياه كليا إلى المنازل عبر المشروع الحكومي، الأمر الذي تحمل تبعاته الأطفال، يقول أمجد: «نشعر بتعب وإرهاق شديد، لكن ليس لدينا خيار آخر، فالمياه التي نشتريها شهرياً لا تكفي لوحدها».
ليس ذلك فحسب، بل إن أمجد يذهب لجلب المياه النقية المخصصة للشرب والطباخة فقط من نقطة «سبيل» في الحي المجاور، تبعد عن منزلهم قرابة 400 متر.
وحسب أمجد فإنه لا يسمح للشخص إلا بتعبئة دبة واحدة فقط في اليوم عبوة (20 لتراً)، ويضيف: «نذهب باكرا للاصطفاف في طابور طويل حتى نحصل على المياه، وفي بعض الأوقات تحدث مشاكل وشجار».
وبعد فك الحصار جزئيا عن المدينة من الجهة الجنوبية الغربية منتصف العام الماضي أتيحت الفرصة لبائعي المياه التجارية توفير المياه من منطقة الضباب، ما خفف الضغط على داعمي «السبيل».
وبدلاً من توفير المياه يومياً، أصبح كل ثلاثة أيام، بحسب فاروق الشميري من مديرية المظفر، وأحيانا مرة واحدة كل أسبوع في بعض المناطق، وفق عبدالعزيز أحمد حسان من حي الموشكي.
غير أن الحاجة لمياه «السبيل»، ما تزال ماسة لمعظم السكان، الذين ليس بمقدورهم شراء المياه التجارية، وفي مقدمتهم موظفي الدولة، الذين انقطعت مرتباتهم منذ أكثر من عشرة أشهر.
فاروق الشميري موظف يعول خمسة أطفال، يقول: «بالتأكيد ما زلنا نعتمد على مياه السبيل، إلى جانب ما نشتريه شهرياً من المياه للشرب والاستخدام المنزلي بواقع 8600 ريال (23 دولاراً)».
تلك الكميات لا تكفي لمنزله كما يقول، لذلك يلجأ لإرسال طفله عمر (10 سنوات) لجلب المياه من «السبيل»، ويضيف: «أحيانا يعود بدون مياه بسبب نفادها، أو عدم وصول وايت السبيل».
عبدالعزيز حسان ما يزال هو الأخر يعتمد على مياه «السبيل»، رغم أنه ينفق شهرياً نحو 14 ألف ريال تعادل (36 دولار) لشراء المياه المخصصة للشرب والاستخدام المنزلي.
وكمعظم السكان هنا، يرسل حسان طفليه: عمار (15 عاماً) ودعاء (13 عاماً) للحصول على مياه (السبيل).
منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة «اليونيسف» كان لها دور فاعل للتخفيف من أزمة المياه في تعز من خلال العديد من المشاريع.
ويقول الناطق الرسمي للمنظمة محمد الأسعدي، إنه خلال فترة العامين ونصف الماضية، اشتغلت اليونيسف على توفير المياه الصالحة للشرب، وبشكل خاص في مدينة تعز، بتنصيب عشرات النقاط لتوزيع المياه عبر شركاء محليين، فضلا عن دعم مؤسسة المياه والصرف الصحي بالوقود لضخ المياه للأحياء السكنية.
وأشار الأسعدي إلى أهم مشروع حديث دشنته المنظمة مؤخرا، والذي يقوم على إعادة ضخ المياه إلى الشبكة الرئيسية للمدينة من حوض المياه في منطقة حبير والحيمة بمديرية ذي سفال بمحافظة إب، والذي دشنته ممثلة اليونيسف الدكتورة ميريتشل ريلانيو منتصف يونيو الماضي.
وقال إن المشروع بدأ بضخ المياه إلى بعض أحياء المدينة المحاصرة، منذ أغسطس الماضي، عبر شبكة المياه الرئيسية.
وأكد عمران محمد من حي السلام بمديرية القاهرة، أنهم فوجئوا مطلع شهر سبتمبر، بوصول المياه عبر الشبكة الرئيسية إلى منزلهم، ومنازل جيرانهم بالمنطقة، معبراً عن سعادتهم البالغة بعودة المياه إلى المنازل بعد أكثر من عامين ونصف على انقطاعها.
وأوضح الأسعدي أن العمل ما يزال جار، لاستكمال تجهيز هذا المشروع بصورته النهائية.
ويضيف «كما عملت اليونيسف وما زالت على دعم أكثر الأسر الفقيرة والمتضررة، عبر برنامج تسليم المعونات المالية في مدينة تعز، والتي تمكن تلك الأسر من توفير احتياجاتها الضرورية الأساسية، وبالتأكيد على رأسها مواجهة أزمة المياه المستفحلة».