بلال الطيب
الأصل في الناس هو الشر، وعلى هذا الأساس يجب أن يُعاملهم الحكام إذا أرادوا لحُكمهم البقاء، هكذا شرَّعن نيقولا مكيافيللي لأفكاره التسلطية، جمعها بين دفتي كتابٍ أسماه «الأمير»، ونمقها بمُفردات ملؤها الخسة، والانتهازية، وعدم احترام حقوق الآخرين، وظلت عاراً يلاحقه حتى بعد وفاته، والأسوأ أنَّ ذلك الكتاب حظي باهتمام الكثير من الطغاة، وسبق لـ «موسوليني» أن اختاره موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراه، أما «هتلر» فلم يكن ينام إلا بعد أن يُعيد قراءته.
ليس بالضرورة أن يكون الحاكم محبوباً، ولا كريما، ولكن عليه – كما قال «مكيافيللي» – أن يكون قوياً، حريصاً، سيخشاه – تبعاً لذلك – الناس، وسيعتبرونه مع مرور الأيام سخياً، خاصة حال إدراكهم أنَّه فعل ذلك من أجل مصلحة الوطن، وأضاف: «لا توجد صفة تحطم نفسها بنفسها مثل صفة الكرم، لأنَّه كلما زاد كرم المرء فإنَّه يفقد القدرة على المزيد منه.. ولهذا فمن الأفضل أن يشتهر الأمير بالحرص الذي يجلب له اللعنة، وليس الكراهية، وألا يضطر إلى أن يكون جشعاً، لأن ذلك يجلب له العار والكراهية معاً».
حكام كُثر لم يطلعوا على كتاب «الأمير»، إلا أنَّهم طبقوا ما جاء فيه بحكم سجيتهم، وطول فترة حكمهم، والأدهى والأمر أنَّهم زادوا فيه تطبيقاً لا نظرياً، ويُعد الإمام يحيى حميد الدين أبرزهم، اشتهر ببخله الشديد، وتحدث مُقربون منه عن مخازن كبيرة في قصر «غمدان» كانت ملأى بالحبوب، وغرف أخرى كانت ملأى بالعملات النقدية، وتحدثوا أيضاً عن قيام أحد أولاده بسرقته، بعد أن حفر نفقاً لإحدى تلك الغرف، ولم يكتشف أمره – أي اللص – إلا بعد أن بدت عليه علامات الثراء!!.
واللافت في الأمر أنَّ ذات الإمام لم يفتح مخازن الحبوب لإنقاذ الناس من المجاعات المُتلاحقة التي حدثت في عهده، وفتكت بالكثير منهم، ولجأ من نجا لأكل القطط والكلاب، وحين ذهب إليه بعض المسؤولين أثناء مجاعة عام «1943م»، وقدموا له مُقترحاً بزيادة إنتاج فرن «الكُدم»، صعَّر لهم خده، ورد على ظهر ذات الورقة: «أحسنتم بالرأي، ما يكفي الخلق إلا الخالق، دعوهم، من مات فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق» فعلق القاضي العيزري – حينها – ساخراً: «إذا كان الإمام مُصدق بيوم القيامة فاقطعوا رقبتي بحذاء».
كان الأمير الحسن – ثالث أبناء الإمام يحيى – أكثر سيوف الإسلام شبهاً بأبيه، خَلقاً وخُلقاً، وهو الآخر لا أعتقد أنَّه قرأ كتاب «الأمير»، إلا أنَّه جاء كوالده بأساليب جديدة، أكثر خسة وانتهازية، كان حقوداً بَخيلا، تجاوز نصائح «مكيافيللي» من الحرص إلى الجشع، وعدَّ الإفراط في الظُلم رحمة، عملاً بمبدأ «هاملت» القديم: «لابد بأن اقسو لكي أبدو رحيما».
كان حاكماً لنواحي إب، سام رعية اللواء الأخضر صُنوف العذاب، وحين حَدثت المجاعة السابق الإشارة إليها، منع فتح «المدافن» المليئة بالحبوب للناس المتوافدين عليه، وكرر مقولة أبيه الصادمة: «ما يكفي الخلق إلا خالقهم»، فمات أكثر الناس – من الجوع – أمام ناظريه، وحين طلب منه معاونيه أن يصرف أكفاناً للضحايا، أمر أن يُقبروا بمقابر جماعية، وبدون أكفان، ليتصدق داؤود الصبيري – أحد التجار اليهود – بشراء الأكفان، أما الأمير البخيل فقد أغلق على نفسه داره، وكأن الأمر لا يعنيه، فاستحق بذلك كره الناس، ولعناتهم.
وفيه قال القاضي عبدالرحمن الإرياني:
حسن ابن الإمام لا احسن
الله إليه ولا عداه السقام
يأخذ المال يهتك العرض
لا يسلم منه النساء والأرحام
في كتابه «معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن»، قال مُحسن العيني أنَّ الأمير الحسن زار ذات نهار إحدى ثكنات جيش الإمامة الحافي في صنعاء، وأنَّه خطب فيهم قائلاً: «أنتم أعظم جيش في العالم، لقد زرت مصر، ورأيت جيشها، وزرت العراق، وزرت إيطاليا، وزرت ألمانيا، ورأيت جيوش هذه البلاد، أنتم أعظم جيش في العالم؛ لأنكم تشبهون جيش رسول الله!!».
وفي ذات الكتاب، ذكر «العيني» أنَّ الأمير الحسن نزل أثناء زيارته للقاهرة بفندق «الكونتنتال»، وحين سأله بعض زواره عن انطباعاته ورأيه بقاهرة المُعز، وأنوارها البراقة الزاهية، فلم يزد أن رد عليهم قائلاً: «تبذير!!».
تذكرت مُفردة التبذير المُستفزة تلك، وانا أستمع لوزير الإتصالات الحوثي مسفر عبدالله النمير، وهو يتهم أبناء الشعب اليمني بالإسراف في استخدام الإنترنت، وأنَّه سيلجأ إلى توزيع قسائم الحق في استخدامه للمواطنين، وذلك بعد أن يجتازوا دورات تثقيفية في ذات الجانب، كما لم ينس أن يتباهى – كالأمير الحسن – بزيارته لعدد من الدول، وأنَّه وجد شعوب تلك الدول لا يدخلون الشبكة العنكبوتية إلا للضرورة، لتشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بالسخرية والتندر من هذا الوزير البخيل، وقد نال – باعتقادي – حقه وزيادة، وتبذير عن تبذير يفرق!!.
أجاع الإماميون الأوائل الآباء والأجداد، كي لا يلحقوا بشعوب الدول الأخرى المُبذرين، وقام الإماميون الجدد بتعذيبنا بالإنترنت، تارة يرفعون أسعاره، وتارة يسرقون باقاته، وتارة يخفضون سرعته؛ بحجة الحد من التبذير، والدخول إلى المواقع الإباحية، وكل ذلك – كما يتوهمون – يصب في مصلحة هذا الشعب المسكين، بعد أن ضمنوا له ولهم الدخول إلى الجنة «ساني»، وأكرر: «إذا كان هؤلاء اللصوص تهمهم مصلحة هذا الشعب، فاقطعوا رقبتي بحذاء العيزري!!».
وبما أنَّ الغاية عند هؤلاء تبرر الوسيلة، فلا ضير أن يكذبوا ويكذبوا حتى يحققوا أغراضهم الدنيئة، ويسرقوا ويسرقوا حتى يشبعوا نفوسهم الجشعة، وكُله – في النهاية – يتم تحت لافتة مُحاربة العدوان، والجهاد في سبيل الله، ويبقى السؤال: إذا كان «مكيافيللي» حياً هل كان سيعجب بتصرفاتهم الأئمة – قديمهم والحديث – ويدونها كنصائح للطغاة؟! أكاد أجزم أنَّه كان سيفعل، وسيغير اسم كتابه من «الأمير» إلى «الإمام»!!.