مرت عشر سنوات على تجمع عدد من الشباب والشابات اليمنيين أمام السفارة التونسية بصنعاء تأييدا لإسقاط نظام بن علي، ومثّل ذلك التجمع البذرة الأساسية التي نمت وتحولت إلى ثورة شبابية ضد نظام علي عبدالله صالح في اليمن.
رغم المطاردات والاعتقالات من قبل القوات الأمنية، استمر الشباب والشابات بالتدفق إلى الشوارع والخروج للمسيرات السلمية بشكل مجموعات صغيرة، تعرضت أحيانا للضرب والاعتداءات الجسدية أيضا. استمرت أعمال العنف بحق الشباب والشابات المتظاهرين حتى إعلان حسني مبارك تنحيه عن السلطة في مصر، لتبدأ اعتصاماتها المستمرة منذ 11 فبراير 2011، لتتوسع العملية من تعز إلى أغلب مناطق اليمن.
كان الحلم الذي حمله اليمنيون واليمنيات، خاصة أولئك الذين ينحدرون من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، كبيرا وشهد طفرة في النمو وامتلك أجنحته الخاصة ليحلق في خيالات الملايين، منطلقا من مبادئ إنسانية عليا تؤمن بالحرية والكرامة، والحق في الحياة الكريمة بمكوناتها الطبيعية مثل الحصول على التعليم والخدمة الصحية في ظل دولة مؤسسات.
الثورة ومدنية المجتمع القبلي
لم يكن مجرد حلم بل كان معززا بالوعي الثوري والحقوقي المدهش، ليس لدى النخبة التي اكتسبت وعيها عبر سنوات من الاحتكاك والانخراط بالمجال الحقوقي والثقافي فقط! ولكن لدى الشارع اليمني بعمومه حتى أولئك الأميين الذين لم يقرأ أحدهم في حياته كلمة واحدة! فأن يخرج فلاح قروي بسيط ينادي بالحرية والحياة الكريمة ومجانية التعليم، والصحة، كان تحولا مصيريا بحد ذاته يعكس مدنية الشعب اليمني ويمحي تلك النظرة والاعتقادات السائدة بجهل الإنسان اليمني لحقوقه.
كما أظهرت الثورة الأخلاق المدنية لليمنيين أثناء الاحتجاجات، وفاخرنا بمدنية المجتمع القبلي حينها، فعندما يأتي الرجل القبلي الذي يعتبر سلاحه جزءا من هويته وكرامته وشرفه أيضا، وينزع ذلك السلاح على مداخل الساحة وينسى العيب الذي يخلقه ذلك التنازل في العرف القبلي في اليمن، يعد ذلك إنجازا وتغييرا اجتماعيا لا يمكن لعقود من التوعية أن تحققه!
حدث هذا منذ الأيام الأولى للثورة، عندما كنا نقف على مداخل الساحة وتأتي مجموعات من الرجال الذين يلبسون الخنجر اليمني المعروف (الجنبية)، وأقول لهم مع رفاقي يمنع دخول السلاح، كانوا يتجردون من السلاح بكل مرونة وسلاسة، لكن التحول نحو عسكرة الفعل السلمي بدأت ملامحه تظهر في مارس 2011، من قبل الإخوان المسلمين الذين استولوا على كل منابر الساحات وجيروا ثورة الشباب لصالح مآرب سياسية تحت غطاء الثورة.
المرأة اليمنية
كان الوعي بأهمية المرحلة مرتفعا، ولم تتباطأ المرأة اليمنية في اللحاق بالثورة الشعبية السلمية وأرادت أن تستفيد من الخذلانات الاجتماعية والسياسية السابقة التي تعرضت لها، وعملت بشكل ممنهج ومنظم من قبل الحركات النسوية والتحالفات الحقوقية والقانونية بالمناصرة والضغط لفرض صوت المرأة وحضورها في المجلس الثوري، والترتيبات والإعدادات التي تعقب المرحلة الثورية، وأصبح حضور المرأة في الثورة ملفتا وقويا يتناسب مع دورها، وبدا أن محاولات القوى الدينية والذكورية والقبلية لخنق صوتها كانت فاشلة حين وجدت المرأة الفرصة للتعبير والمشاركة في فعل بأهمية الثورة، فقادت المسيرات وهتفت من أجل الحرية والكرامة، ولم يرى اليمني عيباً في أن تقوده امرأة حينها.
كانت الثورة بوابة كبيرة لحلم أكبر كنا نطمح إلى تحقيقه، وكانت ميدانا تجريبيا لقدرة اليمنيين على العمل الجماعي المنظم بأخلاقيات المصلحة العامة والتعايش والتنوع الاجتماعي. إذ انعكس كل ذلك في أخلاق الثائرين من الشباب والشابات وحمايتهم لبعضهم، والتكاتف فيما بينهم والتضامن والمساندة وغيرها من الأخلاق النبيلة. ورغم عسكرة الثورة فيما بعد والالتفاف عليها من منظور سياسي ديني، تحت غلاف مصلحة الوطن! إلا أن اليمنيين واليمنيات الذين خرجوا من أجل الوطن ظلوا متمسكين بالحلم والأهداف ومبادئ.
النساء اليمنيات وقفن مع الشباب بالنضال والدفاع عن أهداف ثورتهم، واستمر ذلك إلى فترة الحوار الوطني الشامل الذي رغم اختلاف اليمنيين على آليته كمؤتمر حوار، إلا أنهم اتفقوا على أهميته من حيث المبدأ كفعل سياسي مدني. حاول الشباب والنساء أن يعكسوا مبادئ ثورتهم في مخرجات الحوار من خلال فرض الكوتا النسوية، وإيجاد مساحة آمنة للحوار مع الشباب وفرض العديد من النقاط الإيجابية التي لو رأت النور في الواقع لما نشبت حرب ولا حدث انقلاب الحوثيين الذي قضى على ما تبقى من الحلم الذي خرج من أجله الشباب.
سرقة الحلم والتضحيات
كانت بداية النهاية في 21سبتمبر 2014 ليلة الانقلاب وبداية الحرب في اليمن، ومع الوقت سيطر الحوثيون على معظم محافظات الجمهورية، فاتجه الوضع بالبلاد للأسوأ وانكمشت الصورة الطبيعية لحياة المواطن الذي تعرض عيشه وحقوقه الأساسية للمصادرة المادية والمعنوية، وتحولت اليمن لدولة بوليسية في ظل الانقلاب الحوثي الغاشم، الذي جرم وخون كل من يتحدث ضده أو حتى يطالب بلقمة العيش! ناهيك عن الضغط الذي تعرضت له المنظمات الدولية التي فضلت الانسحاب أو تخفيف مشاريعها بسبب محاولة فرض قوانين الحوثي وسياسته القمعية عليها، مع استمرار الحرب المدمرة التي يعد أبرز أطرافها في مواجهة السلطة المعترف بها دوليا والمدعومة من السعودية والإمارات.
كل هذه العوامل أصابت الشباب اليمني بصدمة كبيرة بعد الثورة، بداية بالالتفاف عليها من بعض القوى المتنفذة! ومن ثم الحرب والانقلاب والتعقيدات السياسية، ليلتقي الكثير منهم خارج بلدهم ويتحدثون عن اليمن الجميل والمنسي الذي يتعرض للتغاضي عن آلامه كثيراً! فبعد مرور عشر سنوات على ثورة فبراير، هناك انتكاسة كبيرة تعاني منها البلاد، ورغم ذلك فإن شباب الثورة ما زالوا يؤمنون بالحرية والحياة الكريمة ويناضلون من أجلها، ومن أجل انهاء الحرب واستعادة كرامة الشعب شمالاً وجنوباَ.
الأمل والحنين
ولا يزال الشباب رغم الانتكاسة المعنوية وانكسار الحلم يحاولوا ان يؤطروا الأهداف بشكل أو بآخر في انشطه إما عامه او تغيير ذاتي، فهنا مثلا في ألمانيا تواصلت مع الناشط الحقوقي أبو بكر الحليلي وهو ممن خرجوا من اليمن لأسباب سياسية، وأحد شباب ثورة الشباب الشعبية السلمية، وقال لي: “إن هناك خذلان وحزن كبير لماوصلت اليه اليمن من وضع سياسي وانساني صعب”، الا أنه لا يزال يؤمن بمبادئ واهداف الثورة.
الحليلي الذي أسس منتدى ثقافي يعقد جلسة لمناقشة موضوع معين مع أبناء الجالية اليمنية في هامبورغ وشولسفيج هولشتاين كل شهر، يرى أن صحيح أنه لم يعد بيدنا ما نقدمة لليمن في الوضع الراهن، إلا أن ثورة 2011 علمتنا رفض اليأس، والاستمرار بالحلم ومحاولة التغيير حتى على المستوى الشخصي، سواء في أنفسنا أو المحيط الذي حولنا، وهذا ما جعله يؤسس المنتدى الثقافي ويطمح لأن يكون منبراً لإيصال صوت اليمن تراثا وهوية وتاريخ. أبو بكر الحليلي ومثله الكثير من الشباب والشابات الذين يتعلمون ويطورون أنفسهم، ولديه أيضا حلم بالعودة إلى اليمن لا يعرف متى سيتحقق!
كلنا ننتظر هذا تحقق هذا الحلم، لأن الحياة بلا معنى وتفقد قيمتها ورغم الاختلاف بالمعاني والتعبير لدى معظمنا، إلا أن ما يجمعنا ونؤمن به، هو الحرية والكرامة الإنسانية واستعادة اليمن.
*شاعرة وكاتبة من اليمن