د/ ³عبدالقادر الجنيد
أكثر إسم مدينة يمنية تتردد على ألسنة اليمنيين هذه الأيام، هو إسم مدينة مارب.
وأكثر إسم يتردد في كل مقالة مكتوبة عن اليمن في العالم الخارجي هو إسم مارب والحشود العسكرية الحوثية وخبراء حزب الله والحرس الثوري الإيراني على تخومها مع تصميم الحوثي على اقتحامها.
أنا زرت مارب، وحدي على ظهر سيارة تويوتا حبة ونص وكنت واقفا على قدمي طوال الرحلة في مغامرة محفوفة بالمخاطر عام ١٩٧٤.
كنت طبيبا حديث التخرج وعمري ٢٥ سنة، وانتابتنى حالة هوس بأنني يجب أن أزور آثار سد مارب وعرش بلقيس ملكة سبأ.
كنا متلاصقون على ظهر السيارة وأنا الوحيد الذي أرتدي شميزا وبنطلونا وبالطو كاكي من حق الجيش ليقيني من البرد.
كنا كلنا واقفون مع بدو كأننا في علبة سردين، ولا أدري لماذا التصق في بالي أن عددنا كان ١٦ شخصا.
خرجت السيارة بعد الظهر من صنعاء في طريق وعرة عبر سنحان.
واجتزنا “نقيل الوتَدَة” الصخري الغاية في الوعورة الضيق في الظلام الدامس.
عند منتصف الليل كنا في الخبت أو وسط لا شيئ خارج جحانة مركز خولان.
كان هناك قبيليا فوق صَرَحَة اسمنتية ومعه موقد يعمل بالكيروسين فتح لنا علبة فول مدمس ورمى بمحتوياتها داخل تنجرة على الموقد ثم ملأها بالماء.
كانت النتيجة سائلا بنيا ساخنا فاتح اللون، غمسنا عليه بخبز الكُدَمْ الذي كان يشتريه القبيلي من جنود في معسكر قريب من صاحب هذه الصَّرَحَة الاسمنتية التي يشغلها كمطعم واستراحة مسافرين وفندق.
صَمَّمَ أحد البدو المسافرين من قبيلة عبيدة الماربية أن يدفع ثمن كل ذلك العشاء “القصعة الفول” ل١٦ راكب.
لم أستطع النوم تلك الليلة من شدة البرد ومن شدة الجوع.
كنا في أواخر عام ١٩٧٤ في الشتاء والبرد يكون قارسا في الليل في تلك المناطق.
قمنا في الفجر واصطبحنا نفس ما تعشينا في الليل من ذلك السائل البني الساخن من الفول مع خبز الكُدَم ثم انطلقنا.
في صرواح، رأيت دبابة مصرية محطمة منذ كان المصريون يدافعون عن الجمهورية عندما جاء الجيش المصري في عام ١٩٦٢.
وافق السائق على أن نتوقف أمام أطلال سد مارب قبل أن ندخل مركز مارب الحكومي، وفعلا الآثار عظيمة والعمل عظيم والفكرة عظيمة وكل شيئ يدل على قوم عظام في قديم الزمان ودولة عظيمة في آخر المناطق الجبلية قبل أن تنقلب الأرض فجأة إلى رمال وصحارى.
كانت أيام رئاسة وزارة حسن مكي في الشهور الأولى لأيام حكم الرئيس ابراهيم الحمدي.
الذي عين حسن مكي رئيسا للوزراء كان الرئيس عبدالرحمن الإرياني واحتفظ به الحمدي لشهور.
البدوي صاحب قبيلة عبيدة قال لنا أن حسن مكي كان في هذا المكان قبل أسبوع بالضبط بصحبة السفراء الأجانب ليفرجهم على أطلال سد مارب وقد وصلوا كلهم على طائرة بمروحتين هبطت بهم على ممر ترابي يسمونه مطار مارب.
وفجأة أمطرت الدنيا على رئيس الوزراء والسفراء بالرصاص من كل جانب.
“الأشراف” الحسينيون من قبيلة عبيدة الصحراوية، كانوا يقومون بدور المُضيف ويعتبرون أنفسهم أصحاب سد مارب العظيم ولكن قبيلة “جهم” الجبلية المجاورة تكرههم كره العَمَى وتقول بأن السد من حقهم هم.
وأن حق الضيافة لرئيس الوزراء والسفراء، هو حق قبيلة جهم وحدها.
وأنهم إذا لم يتغدوا عندهم، سيقتلوهم.
هرب رئيس الوزراء والسفراء إلى الطيارة ومنها إلى صنعاء من غير أن يشاهدوا السد وبلا غداء.
وصلت إلى مارب منتصف النهار وقت الظهر.
أي أن السفر من صنعاء إلى مارب استغرق يوما كاملا عن طريق خولان.
هذه الأيام يستغرق السفر ساعتين فقط عن طريق نهم.
لم يكن هناك بيتا واحدا ولا ساكنا واحدا داخل ما يسمى بمدينة مارب.
كان هناك صندقة من الصفيح لواحد من تعز، يقدم فيها الطعام والشاي للمسافرين.
وكان هناك مبنى أنجزوه قبل شهر هو مبنى المحافظة.
وكان هناك مبنى متهالك من أيام الإمام يستعملونه كاستراحة أو فندق بدون أسرة للسواح، وهناك أمضيت أيامي الثلاثة.
أعتقد أن هذه المقدمة تشرح وتحكي الكثير عن مارب واليمن قبل أن أدخل في موضوع اليوم .
**
أولا: مأرب في التاريخ.
**
١- التجارة العالمية قبل الإسلام
هي طريق التجارة بين الشرق والغرب عندما ينهار طريق الحرير وتعم الفوضى بلاد فارس.
وهي كتلة جغرافية وتاريخية واحدة مع الجوف وشبوة وحضرموت ونفس ممالك قتبان وأوسان.
في تلك الفترات الأولى قامت دولة معين أول ديموقراطية في التاريخ وعاصمتها براقش.
وبعدها دولة سبأ وبنوا أول سد مائي عظيم في التاريخ وبالقرب منه المعابد والعروش والقصور.
لم يكن ليكون هناك كل هذا العمران والبناء قبل آلاف السنين لو لم يكون هناك ثراء عظيم وازدهار وربما عمالة أيدي مجلوبة من أماكن بعيدة.
ولا يمكن تفسير هذا الثراء إلا بطرق التجارة وبالتجارة بين الشرق والغرب.
وكل هذا ممزوج بالصراع الداخلي بين براري وفيافي شرق اليمن ووسطها على السيطرة والثروة.
٢- عندما تنهار التجارة
موجات نزوح سكان الشرق إلى الوسط
وعندما تستعيد فارس عافيتها تنهار طرق التجارة من بحر العرب الذي هو امتداد المحيط الهندي إلى بلاد الشام وشمالا حتى البحر الأبيض المتوسط.
وعندها تنزح مجاميع كبرى من السكان إلى الوسط في موجات من النزوح الجماعي من شرق وفيافي اليمن إلى اليمن الوسطى ليبنوا ممالك جديدة- أشهرها دولة حِمْيَرْ- في أراضي أخصب.
٣- سفن البحر، ترث قوافل الصحراء
بعد الإسلام عندما كانت تنهار طرق التجارة العالمية في طريق الحرير وتعم الفوضى بلاد فارس في العصور اللاحقة، تطورت أساليب نقل اليمنيين من قوافل الصحراء إلى الممرات المائية والملاحة البحرية.
كانت المخاء، هي عروس البحر الأحمر وأشهر موانئها.
وكانت عدن هي ميناء دول وممالك يمنية عديدة لمئات السنين.
كانت عدن الميناء الرسمي للدولة الصليحية وعاصمتها جبلة والدولة الرسولية وعاصمتها تعز والدولة الطاهرية التي كانت بقواعد في رداع وتعز.
وكانت هذه الدول اليمنية الكبرى تدفع عن عدن هجمات البرتغاليين.
وما مجيئ الدول المصرية العظمى المتعاقبة من الفاطميين والأيوبيين والمماليك وبعدهم مجيئ الدولة العثمانية مرتين إلا لحماية الرزق الوفير ومصادر الثروة من الطموح البرتغالي الصاعد بعد انهيار الأندلس والمحافظة على الثروة التي كانت تجيئ من من هذه التجارة البحرية والموانئ المزدهرة على جانبي شواطئ البحر الأحمر.
كانت دول اليمن تأخذ الرسوم من السفن على كل بضاعة تمر ترانزيت وتزدهر من تموين السفن من الماء والطعام ومن دخول البضائع عبر ميناءها البحري الرسمي عدن.
وكانت موانئ مصر المزدهرة القرينة لعدن هي مدينة قنا في صعيد مصر وميناء السويس التي كانت تستلم منها قوافل الجمال البضائع إلى الاسكندرية ثم إلى أوروبا.
٤- تجارة عدن تحت الاستعمار
ثم جاءت بريطانيا وبترت عدن من اليمن وجعلتها من أهم المحطات البحرية بين الشرق والغرب لخدمة امبراطوريتها.
وظلت عدن المحتلة مع هذا هي رئة اليمن. ليس هذا فقط ولكن عدن كانت نقطة الإتصال الوحيدة والحصرية بين اليمن الداخلي وكل أنحاء العالم.
وانهارت كل موانئ اليمن الأخرى.
٥-صراع الصحراء والجبال
مأرب التاريخية، هي أيضا العلاقة أو الصراع بين سكان الصحراء والجبال، والعلاقة أو الصراع بين البدو والقبائل.
تجار الطرق الصحراوية، كانوا يوظفون سكان الجبال حراسا لقوافلهم التجارية من الجنوب إلى الشمال وبلاد الشام.
و سكان الجبال، كانوا يسطون ويغيرون على قوافل التجارة.
وكان سكان الصحراء يصدون سكان الجبال المتاخمة لطرق التجارة. وحتى أحيانا يغيرون عليهم وعندما تنهار طرق التجارة كانوا ينزحون جماعيا إلى الوسط.
وبالرغم من مجاميع كبرى من سكان وقبائل الجبال يقرون بأن أصولهم الأولى هي نزوح قبائل صحراوية إلى مناطق المدرجات الزراعية أو الخصيبة في فترات من قديم الزمان إلا أن علاقة قبائل الصحراء بقبائل الجبال كانت دائما- ومازالت حتى الآن- علاقة تنافسية ومليئة بالتوتر والشكوك.
**
ثانيا: مأرب الحالية
**
١- مارب الحالية، تقوم بدور عظيم.
ولا أفضل الإسهاب بشأنها لأننا وكل اليمن بحاجتها، ولا أريد أن أضعها مسرحا للجدل والمجادلة الذي نبرع- نحن اليمنيون- بها ونضر أنفسنا بأنفسنا به.
٢-مارب الجديدة، ظاهرة جديدة للغاية نضجت بفعل عوامل كثيرة.
سد مارب- المزارع- تصدير الخضروات والفواكه- النفط والغاز- الثراء الذي يتنعم به كبار القوم في مارب مع المصلحة العامة في ضمان الاستقرار.
هجرة اليمنيين إلى مارب، بدأت قبل الحرب الحوثية الحالية على أبناء اليمن.
سكان مارب، قليلوا العدد.
والمزارع التي تكاثرت وانتشرت وازدهرت بسبب بناء سد مارب، كانت تحتاج لأيدي عاملة من كل أنحاء اليمن وخاصة من المناطق الوسطى.
ومع مجيئ الناس، ازدهرت السوق العقارية وبناء البيوت والدكاكين والأسواق.
٣- مارب بعد حروب الحوثي
أ- أصبحت هي صنعاء.
فقد حلت مارب محل صنعاء في التوسع الحضري وفي العمران للسكان القادمين من خارجها.
ب- أصبحت هي تعز.
فقد حلت مارب محل تعز بسماحتها وبقبول أي يمني بين أحضانها بدون أن يشعر أنه غريب.
ج- أصبحت هي عدن.
مارب، هي المكان الذي تفتخر به الشرعية وكل مضطهد ومظلوم من الحوثي بعد أن كان المكان المهيأ لهذا الدور هو عدن عاصمة الشرعية اليمنية والميناء التاريخي للدولة الصليحية والدولة الرسولية والدولة الطاهرية، كتبت لها الأقدار والمناطقية والتحالف للشرعية أن تكون أكبر مكان طارد لليمنيين.
**
ثالثا: مأرب والحوثي
**
الحوثي، صاحب مشروع في غاية الوضوح.
من المفارقات الغريبة ومن عجائب اليمن أن أسوأ ما فيها من مكونات هو أكثر جهة تفهم ما تريد.
الحوثي، يريد حكم اليمن وإخضاعها له ولسلالته.
الحوثي، قد تمكن بنجاح من تهييج وتحشيد ثلاث عصبيات هي السلالية الهاشمية والمناطقية الشمالية والقبلية الشمالية ودفع بها لخدمة مشروعه الواضح جدا لكن بدعاوي الاستقلال الوطني ودفع العدوان الخارجي.
الحوثي، لن يفلت لمارب ولو انقلبت السماء على الأرض لغازها ونفطها وسدها ومزارعها وللنموذج المدهش الفريد الذي قدمته لكل اليمن الرافض لطموحه ورغباته.
الحوثي، لن يفلت لمارب إلا إذا دحروه عسكريا وهذا حينها سيكون المسمار الأول في نعش الحوثي ليس مجازيا فقط ولكن جسديا لشخصه.
**
رابعا: الدفاع عن مأرب
**
١- دفاع أهل مأرب
والدفاع عن مارب- من وجهة نظر أهل مارب- مسألة حياة أو موت بمعادلات الزمن الحالي.
وبمعادلات الصحراء والجبل والبدوي والقبيلي والمذهب الشافعي والزيدي تفيض المسألة وتصبح مسألة وجود ومسألة هوية.
٢- دفاع أهل كل اليمن
والدفاع عن مارب، مسألة حياة أو موت بالنسبة لكل اليمن المناهضة للحوثي.
إذا انتهت مارب، سيختفي المكان الوحيد في اليمن الذي يستطيع أن يعيش فيه اليمني المناهض للحوثي بعزة وفخر وتصميم وكرامة.
٣- دفاع السعودية
والمفروض أن يكون الدفاع عن مارب مسألة حياة أو موت بالنسبة للسعودية.
إذا انتهت مارب، ينتهي ما تبقى من الشرعية داخل اليمن.
وإذا انتهت الشرعية ينتهي دور السعودية في اليمن.
وإذا انتهى دور السعودية، يكتمل خنقها من شمالها وجنوبها من قبل إيران.
**
خامسا: مأرب مفاجأة لم تكن بالحسبان
**
واليمن كلها، كسبت مكسبا هائلا بهذا التبلور والتطور لمارب فانجذبت إلى مارب بروحها وقلبها ودمها وعرقها وشبابها وشيوخها ورزقها وعيشها وملحها.
مأرب شيئ لم يكن في حسبان الحوثي والسلالة والإمامة وملالي إيران والمد الشيعي في المنطقة.
مأرب، هي حبل النجاة الذي تتعلق به اليمن الجديدة.
مأرب، حالة اجتمعت فيها الجغرافيا السياسية والعوامل الديموغرافية والمصلحة الآنية لأهل مارب وحبل النجاة الممدود لشعب اليمن وبلاد اليمن ومستقبل اليمن.
مأرب الحالية، نموذج يمكن أن تسير عليه كل اليمن في التعامل مع:
١- تنوع اليمن
٢- الخصوصية المحلية لكل منطقة ومصلحة اليمن العليا
٣- تعايش اليمنيين مع بعضهم
٤- وحدة اليمن