توفيق السامعي:
معرفتها القراءة والكتابة
من خلال السياق القرآني نستشف أن ملكة سبأ كانت صاحبة علم، وهذا نستنتجه من خلال قراءتها للرسالة التي ألقاها إليها الهدهد؛ أي إن الأبجدية قد كانت موجودة، وإن تعلم القراءة والكتابة قد كان موجوداً قبل ذلك العهد. قرأت الرسالة على الفور، فجمعت أعيان المملكة لتطلعهم على فحواها.
وكذلك فإن مادة الكتابة لم تكن الألواح والعظام وسعف النخل، بل هو دليل على وجود التدوين في الجلود وما شابه، إذا قيل إن العرب لم يعرفوا التدوين قبل ذلك!
فمعظم الباحثين في النقوش اليمنية يقولون إن أقدم نقش وجد حتى اليوم لسبأ –حتى الآن- هو في نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، أو في بدايات القرن الثامن قبل الميلاد أي: في عهد سمهعلي ينوف؛ أي بعد ملكة سبأ موضوع البحث، ومن خلال معرفتها القراءة والكتابة نستدل أن الأبجدية المسندية في سبأ كانت موجودة قبل تلك الملكة بزمن متقدم، وذلك بالأخذ بعين الاعتبار مرور الأبجدية بعدة مراحل من النشأة أولاً، ثم النمو والتطور ثانياً لتصل إلى قمة النضج والاصطلاح والمعرفة والتبادل والانتشار بين الشعوب. فكم من الزمن هنا يمكن أن نحدد نشأة هذه الأبجدية قبل ملكة سبأ التي عاصرت سليمان؟!
على الرغم من أن كثيراً من الباحثين لهم آراء مختلفة في فترة سمهعلي ينوف، فمرة يجعلونه في القرن الثامن قبل الميلاد، ومرة في السابع، ومرة في الخامس، ولم يستقروا على رأي حوله، إلا أنه ما يؤكد أن هذا الملك كان على رأس فترة المكاربة في القرن التاسع قبل الميلاد، وورود اسمه كأول من استحدث أعمالاً في سد مارب التاريخي، وذلك في النقش المرموز إليه ب(CIH 623( .
ومن بعده توالت الترميمات والاستحداثات في السد، حتى إن جواد علي وآخرين جعلوه أنه هو باني السد ومنشئه( )، لكن بالعودة إلى النقش الذي يذكر أعماله فبالتدقيق في ألفاظه فإنه فقط يستحدث استحداثاً من قنوات تصريف وأعمال توسعة وحماية وليس منشئه.
وبما أن مكاربة وملوكاً جاؤوا بعده من نسله واستحدثوا أيضاً في نفس السد، ونصوصهم أعادها المؤرخون إلى فترات زمنية بعده حددوها في القرن الثامن قبل الميلاد، كنص ولده المكرب يثع أمر بين، والسابع كنص نقش النصر لكرب إيل وتر، وكذا السادس لمن بعدهم، فإننا نذهب إلى القول بأنه على رأس قائمة المكاربة في الفترة الزمنية الأولى للنصوص المكتشفة.
ونجد أن القرآن الكريم قد أكد – في سياق قصة ملكة سبأ- على هذا الأمر في نهاية قصتها مع نبي الله سليمان بقوله: ﴿وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين﴾( ). وهنا لا يقتصر العلم فقط على القراءة والكتابة، وإنما على العلم ذاته، قد يكون علم الديانات، أو علم الفلك أو العلوم المختلفة من حساب وفلسفة ومنطق، وغيرها.
وإذا ما أخذنا بالرواية الإسرائيلية أنها جاءت من أقاصي الدنيا لتسمع من علم وحكمة النبي سليمان وتستفسره في بعض العلوم والأشياء، وخاصة علم التوحيد أو الديانات، فإنها تكون باحثة عن أصل الكون الذي كانت تعبد كواكبه وأجرامه السماوية وهي متطلعة لتعلم المزيد عن ذلك ومعرفة الإله، كما فعل نبي الله إبراهيم وهو يبحث عن أصل الكون وإلهه، كما في سورة الأنعام، وفي القرآن الكريم بعض إشارات إلى هذا الأمر من علم ملكة سبأ من خلال الحوار الذي دار بينها وبين سليمان.
فقد برع اليمنيون القدامى في علم الفلك والطب والحساب والزراعة، وعلى أساس منه كونوا أعظم الحضارات الزراعية والطبية، وكذلك تخير أوقات أسفارهم وملاحتهم البحرية، ومعرفة حركات الرياح، وكذلك مسح المسافات الأرضية لمعرفة الطرق المختلفة التي على أساسها اكتشفوا العديد من الطرق البرية المختصرة والمعروفة والسهلة التي توفر لهم بعض حاجيات السفر من ماء ومرعى وتجارة وغيرها، وعلى أساس من ذلك سيطروا على الطرق البرية والبحرية وأسسوا الطرق المختصرة، وكان أعظم طريق لهم هو طريق البخور الشهير الممتد من ميناء قنا في شبوة وحتى سواحل غزة وآسيا الوسطى، وما كونوه إثر ذلك من محطات تجارية سماها القرآن الكريم (قرى ظاهرة). وقد كان اليمنيون في رحلاتهم التجارية، أو غير التجارية، يأوون إليها وينزلون فيها ليستعدوا من خلالها لاستئناف رحلاتهم وشق طريقهم، كما صور القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى: (سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين).