توفيق السامعي:
مبعث علي بن أبي طالب (الحلقة3)
لقد كان بعض اليمنيين أسلم وذهب وفادة إلى النبي في المدينة قبل الفتح، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرسل المعلمين ليعلموهم الإسلام، ويقر عليهم الولاة، أمثال أبي موسى وغيره، فقد أسلم قبل الوفود مع اثنين من إخوته كان أصغرهم، كما يقول هو، وذهبوا إلى المدينة معاً، ثم أرسل بعد ذلك والياً للنبي على تهامة، وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي وآخرون كثر.
فقد حكى صاحب “نزهة الأبصار” عن الشريف إدريس بن علي بن عبدالله ما ذكر في كتابه “كنز الأخبار”، قال: قالوا: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعماله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى بلاد عك من تهامة الطاهر بن أبي هالة، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعلى نجران عمروا بن حزم الأنصاري وأبو سفيان بن الحارث، وعلى ما بين زبيد ونجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى صنعاء فيروز الديلمي، وعلى الجند يعلي بن أمية، وعلى مارب أبو موسى الأشعري. وكان معاذ بن جبل ينتقل إلى كل عمل أحد منهم يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين وهذه قائمة وسلسلة أخرى من سلسلة الولاة تدل على اضطراب في التدقيق في قضية ولاة النبي في اليمن، لكنها تجمع على شيئين؛ ولاية معاذ وأبي موسى، وعدم زيارة علي لصنعاء مطلقاً.
وهذا يعني أيضاً أن علياً لم يزر صنعاء ولم يعرفها على الإطلاق؛ فكل الشواهد تؤدي إلى عدم وصوله صنعاء بل أطراف اليمن من ناحية شمال الشمال في نجران وصعدة التي كانت قصبتها وعاصمتها ومستقرها همدان التاريخية القديمة وليس همدان صنعاء.
فقد توهم الجندي في كتابه (السلوك ج1/79)، مع طول باعه وعلمه، أن علياً بعث إلى صنعاء، ولم يكتف بهذا القول بل إنه قال أنه دخل عدن أبين وعدن لاعة في حجة، مستشهداً بحديث علي للرسول (أتبعثني إلى قوم فيهم كهول وأنا شاب…) وهو الحديث الذي عند البخاري ومسند الإمام أحمد أنه خاص بمبعثه لهمدان (صعدة ونجران)، وهو يدحض قول الجندي. فالجندي حينما ساق هذا الأمر قال: “يقولون..”؛ أي إنه لم يتثبت من الرواية الحقيقية وإنما اعتمد على مقول القول لبعض رواة الأخبار. وأيضاً فإن عدن أبين كانت ضمن مخلاف الجند يومها وتحت إمرة معاذ، وهناك قول للجندي يشير إلى هذا الأمر.
ولم يكتفِ الجندي بالقول إن علي بن أبي طالب كان أحد ولاة صنعاء، بل قال أيضاً إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- دخل صنعاء والياً، معتمداً على رواية الرازي الذي خلط وخبط في أمر صنعاء وتاريخها كل عشواء، وليس صحيحاً البتة أن أبا بكر أو علي دخلا صنعاء.
فالمتصوفة معلوم عنهم التشيع لعلي والمبالغة في نسبة الأشياء إليه، وإسناد كثير من الظواهر الطبيعية له، كما يقولون في اليمن: ضربة علي، وقدم علي، وبئر علي، وشجرة علي، وغيرها من الأشياء الخرافية التي ينسبونها إليه. وبالتالي فإن إيراد بعضهم أقوالاً، وفي الحقيقة هو قول واحد، أن علي زار صنعاء لم تكن معلومات دقيقة ولا ممحصة، أوردها الجندي في كتابه السلوك بصيغة (قِيل) أي لم تثبت كحدث ورواية عن ثبت ومعرفة، ثم أخذها عنه ابن الديبع في تتابع عجيب حتى في صيغة (قيل)، خاصة إذا ما علمنا أن ابن الديبع أخذ معظم معلوماته عن الجندي، وبالتالي لم تذكر تلك الزيارة أي من بقية المصادر التاريخية أو السير النبوية.
ورحم الله ابن سيرين فقد كان “يرى أن عامة ما يروى عن علي الكذب”( ).
كرس الإماميون هذه المعلومة لأهداف في نفوسهم، والحقيقة أنه حتى في مصادرهم التاريخية لم يقولوا بها على وجه التأكيد، وما وجدنا في مصادرهم التاريخية من يقول بهذا القول، إلا أن الإماميين الجدد الحوثيين يحاولون طمس الحقيقة والتسلق على معلومات مضللة وإبرازها للعلن حتى في مخالفة لأسلافهم من الإماميين القدامى.
لا أعتقد أن إقدامهم على بناء مزار شيعي في صنعاء القديمة بحجة القداسة التاريخية، فماهي إلا استعراض للقوة وبسط مظاهر التشيع على العاصمة صنعاء لتكون شيعية خالصة، وهي التي لم تحوِ التشيع منذ القدم، إلا قليلاً من مظاهر الطقوس للإماميين وسط محيط كبير من السنة وقليل من المذاهب والفرق الأخرى.
فصنعاء حتى القرن السادس الهجري لم تكن تعرف التشيع، وحتى وصول يحيى بن الحسين الرسي إليها ومكوثه القصير فيها أثناء هجومه عليها في زمن اضطراب الدولة اليعفرية واستنجاد أبي العتاهية به، لم تتعدى شهراً واحداً، لم يستطع فرض أي من أجندته الطائفية؛ لأن أسعد بن أبي يعفر والضحاك الحاشدي ومن معه، طردوه منها وعاد إلى صعدة مجدداً، حتى استولى عليها السفاح عبدالله بن حمزة سنة 599هـ حين دخلها إبان اضطراب الدولة الأيوبية الأولى في اليمن؛ وكان أول من فرض فيها وعليها “حي على خير العمل” في الأذان، إذ إنه لما دخل صنعاء “أقيمت الجُمَع وأُذِّن بحي على خير العمل مع كراهة الجند لذلك”( ). وكان أول من أذن في صنعاء بـ”حي على خير العمل” مع عبدالله بن حمزة هو الشريف غانم بن علي العباسي. قال الشريف غانم: “ولقد رأيت قاضيهم [يعني قاضي الأيوبيين على صنعاء] حين رفعت صوتي بحي على خير العمل بجعل إصبعيه في أذنيه ويستغفر الله”( ).
وهناك بدأ فرض أولى مظاهر التشيع وهو الجهر بـ”حي على خير العمل” في الأذان لأول مرة في تاريخها، ومع ذلك لم يمكث بن حمزة فيها كثيراً حتى طرده الأيوبيون منها بقيادة سيف الدين سنقر وزير الأيوبيين مع القادة الرسوليين قبل تأسيس الدولة، وأعادوا الأمور إلى نصابها، ومن بعدها لم يتمكن الأئمة الدخول إلى صنعاء أو الاستيلاء عليها إلى زمن الإمام شرف الدين وابنه المطهر في القرن العاشر الهجري وتحالفه مع المماليك ضد الدولة الطاهرية وإسقاطها عام 923هـ؛ أي بعد بن حمزة بأكثر من 400 عام، وحتى من كان يصل صنعاء من الأئمة إبان اضطراب الدول كان لا يمكث فيها أكثر من ثلاثة شهور في أعلى تقدير كالمهدي بن المطهر بن يحيى مثلاً، أو عبدالله بن حمزة، وكانت الدول سرعان ما تسترد صنعاء لا يلحق الإماميون القيام بأي عمل من فرض التشيع.