توفيق السامعي:
توضيح مهم:
نحن اليوم إذ نخوض فيما دار بين الصحابة من معارك على السلطة لتثبيت الدولة لم نكن شهود عيان بينهم، بل نستقرئ التاريخ والأحداث التي كانت بينهم من خلال تقديم خلاصة مختلف الروايات التاريخية التي وردت في سير وكتب المؤرخين في تلك المعارك، لنستفيد منها في واقعنا اليوم، ولسنا في إطار التفضيل بينهم، ولا نرقى لأن نكون في أقل درجة من درجاتهم؛ فقد نشروا دين الله في الأرض، وكانوا النواة الصلبة له، ورضي الله عنهم من فوق سبع سماوات، وأنزل بذلك قرآناً يتلى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}(الفتح18)، {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة100)، وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، وقد أمرنا أن نحسن الظن بهم، ولا نقول فيهم إلا خيراً، فقال: “أيها الناس: إني عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين راضٍ، فاعرفوا ذلك لهم. أيها الناس: إحفظوني في أصحابي وأصهاري وأحبابي، لا يطلبنكم الله بمظلمة أحد منهم. أيها الناس: إرفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحدهم فقولوا فيه خيراً”( البداية والنهاية: لابن كثير – ج5/صـ214).
ومن خلال ذلك تتبعاً للأحداث التي تغالط بها الإمامة وتزور التاريخ، وعلى أساسها أقامت نظرية الهدم الإمامي، وارتكابها كل الموبقات بحق الشعب اليمني قديماً وحديثاً بناءً على ذلك التزوير واستدعاء الماضي المغلوط وليس الماضي الصحيح والبنّاء، وبذلك نحن نستفيد من تلك الأحداث وندرسها لكي ننهي المغالطات التي تنفذ من خلالها الإمامة والحوثية اليوم.
….
وبعد.. يتحدث الكثير اليوم من المتحاملين على الصحابي الجليل علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- بسبب جرائم الإمامة التي شوهت سمعته، برد كل شيء إليه من الأقوال والأعمال، وارتكاب الحوثية اليوم كل جرائم العصر بحق اليمنيين، كما هو الحال في من يدعون انتساباً إليه أو مشايعوه في كلٍ من إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن، فأوغر ذلك صدور الكثيرين على كل من يمت بصلة إلى ذلك النسب وصولاً للتحامل على علي نفسه -رضي الله عنه- دون إنصاف، مع أن كل الأحداث كانت بعده، وكل المشايعين له إنما زوّروا وافتروا عليه ولا يتحمل هو وزرهم.
وبين هؤلاء وهؤلاء يضيع الرأي الوسطي والمعتدل، ويلقى قدحاً وردحاً من الجانبين، ولا يتم قراءة الأحداث بتجرد وإنصاف، بعيداً عن الغلو والتطرف والتعصب لكلا الفريقين.
سأحاول -جاهداً- في هذا العرض، أن أقدم خلاصةً وقراءةً وسطيةً لتلك الأحداث، بناءً على ما فهمته من مجمل ومختلف الروايات الواردة في كتب التاريخ والسِّيَر.
أولاً: ليعلم المتحدث في تلك الأحداث أن الجو كان مشحوناً ومتوتراً بسبب التعبئة الكبيرة ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من قبل الخارجين عليه، وتتبع كل زلاته والمداخل لتأليب الناس ضده والثورة عليه، بلغ حداً أنه جادلهم وناظرهم وحتى هزمهم بحجته واقتنعوا بها، وكادوا يستسلمون ويتراجعون عن الثورة ضده، وفعلاً كانوا قد تركوا المدينة وخرجوا متوجهين إلى أوطانهم، لولا أن السبئية والتيار الخفي الذي يستغل تلك الأحداث ويحركها من تحت الطاولة، كانوا كلما خمدت نيران الثورة كلما صبوا الزيت فيها ليشتعلوا جذوتها من جديد.
إذ لما أمِنَ عثمان -رضي الله عنه- وظن أنه قد أقنع المتمردين بذلك، وذهبوا لحال سبيلهم، إذا بهم يعودون من خارج المدينة مجدداً لحصاره في منزله، والحاصل أن هناك من زوَّر رسائل باسمه وخاتمه إلى عمال الأمصار بقتلهم إذا رجعوا إلى بلدانهم، وعادوا غاضبين عليه، فقال لهم: إما أن تقيموا علي شهوداً بكتابي بذلك أو تقبلوا يميناً بالله أني لم أكتب، وكذلك المثل زُوِّرت رسائل إليهم باسم علي، ولما حاججوه بها أقسم أنه لم يكتب لهم بذلك، فأعرضوا عنه، ولم يقبلوا من عثمان اليمين وقاموا بحصره وقتله.
نلاحظ من خلال ذلك التلاعب أنه كان هناك من يزوّر الرسائل على لسان عثمان ليغري الناس عليه، ويظهره بمظهر المتلاعب الناكث لعهوده الغادر باتفاقاته، والغاية تضييق الخناق عليه حتى يصير إلى القتل، ومن خلال هذه الأمور تكشف لنا الأحداث عن سبق إصرار وترصد وتعمد لعدم قبول أي حجة أو تبرير من عثمان للوصول إلى قتله، حتى أنهم رفضوا خلعه ومبايعة غيره وهو حي.
كذلك هي ملاحظات أخرى لا بد من أخذها بعين الاعتبار، وهي: من كان يمول أولئك المتمردين من العراق ومصر وتكاد تجمع الروايات التاريخية على أنهم أربع فرق من مصر وأربع فرق من العراق تحت كل فرقة ألف على رأي المكثرين، وستمائة على رأي المقلين؟ أي إننا أمام جيش كبير يحتاج إلى تزود وتمويل، فمن كان يمولهم للبقاء في المدينة من شوال وحتى بعد الحج واستمرارهم حتى مقتل عثمان في 12 ذي الحجة ومبايعة علي بعد ذلك واستمرارهم بعده أكثر؟!
تعرض عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى خذلان مبين من أهله وأقربائه، فكثير من الدلائل والإشارات تدل على أن مروان بن الحكم، وهو ابن عم عثمان ووزيره ومستشاره ومن أهم المقربين إليه كان هو صاحب الختم، وهو الذي يولي في الأمصار، وكان لا يرى عثمان رأياً إلا عارضه وغلبه عليه وأمضى رأيه هو، فقد كان أهم عامل وسبب لتأليب الثوار عليه.
هذا التيار الخفي كيف استخدم مروان بن الحكم سواء شعر أو لم يشعر بها الاستخدام ضد خليفة المسلمين وولي نعمته، وكيف خذل عثمان حتى بالدفاع عنه في بيته أثناء الحصار؟!
لما انهزم الفرس وزالت دولتهم عمدوا إلى التنظيم السري للكيد لدولة الإسلام ورموزها، وخاصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي يعتبرونه رأس كل شيء؛ فهو هادم إمبراطوريتهم، وهو مؤسس الدولة الإسلامية الفعلي والتي لا ينبغي لها أن تتأسس بنظرهم؛ لأنه كان يرسي مداميك دولة حقيقية بمؤسساتها ومبادئها وأعمدتها الناهضة بها حضارياً، فبدأ ذلك التيار باتخاذ أولى الخطوات نحو ذلك عبر قتل عمر نفسه.
لم يكن هذا التيار المحرك للأحداث منذ عهد عثمان وحسب، بل كان هو محرك الأحداث من قبل ضد الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأدى إلى التآمر عليه وقتله على يد أبي لؤلؤة المجوسي، غلام المغيرة بن شعبة، وبقتله رضي الله عنه فتحت أبواب الجحيم على الإسلام والمسلمين في حينه؛ فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أشار إلى ذلك بحديث حذيفة بن اليمان الآتي ذكره.. حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا شقيق: “سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- عَنِ الفِتْنَةِ؟ قالَ: قُلتُ: أنا أحْفَظُهُ كما قالَ، قالَ: إنَّكَ عليه لَجَرِيءٌ، فَكيفَ؟ قالَ: قُلتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ، ووَلَدِهِ، وجارِهِ، تُكَفِّرُها الصَّلاةُ، والصَّدَقَةُ والمَعْرُوفُ – قالَ سُلَيْمانُ: قدْ كانَ يقولُ: الصَّلاةُ والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ – والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ. قالَ: ليسَ هذِه أُرِيدُ، ولَكِنِّي أُرِيدُ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ. قالَ: قُلتُ: ليسَ عَلَيْكَ بها يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ بَأْسٌ؛ بيْنَكَ وبيْنَها بابٌ مُغْلَقٌ. قالَ: فيُكْسَرُ البابُ أوْ يُفْتَحُ؟ قالَ: قُلتُ: لا بَلْ يُكْسَرُ. قالَ: فإنَّه إذا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أبَدًا. قالَ: قُلتُ: أجَلْ، فَهِبْنا أنْ نَسْأَلَهُ مَنِ البابُ فَقُلْنا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، قالَ: فَسَأَلَهُ، فقالَ: عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-. قالَ: قُلْنا، فَعَلِمَ عُمَرُ مَن تَعْنِي؟ قالَ: نَعَمْ، كما أنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وذلكَ أنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا ليسَ بالأغالِيطِ.(صحيح البخاري، رقم الحديث 7096، صـ1756، ط1: دار الفكر، دمشق، 1423هـ – 2002م)
وكسر ذلك الباب بقتله، ثم نُفذ من ذلك الباب إلى الخليفة عثمان بن عفان –رضي الله عنه- فقتل، ووالله ليست المآخذ التي أخذت عليه تؤدي إلى قتله، بل كان يراد إضعاف وإنهاء دولة الإسلام، ومن يقرأ كل تلك الأحداث بتمعن يدرك أن محركها أيادٍ خفية لا تريد شخص الخليفة بل الدولة برمتها.
….يتبع