28.9 C
الجمهورية اليمنية
3:56 مساءً - 23 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

الحرب في اليمن وخطابها

عبد الباري طاهر:

الحرب في اليمن والمنطقة العربية أشبه ما تكون بـ«لعبة العرائس الروسية»، وخطابها – على بشاعته – فيه قدر من غموض «القصيدة الحديثة»، أو «سردية الواقعية السحرية» المحتاجة إلى أكثر من قراءة، وإلى الاطلاع الواسع على طبيعة التركيبة المجتمعية، والقوى الفاعلة والحية، وعلاقتها الملتبسة والمتداخلة مع الجوار والمحيط والبعد الدولي.

«لغة القصيدة الحديثة»، أو «السردية السحرية» متنوعة ومتعددة، وتبطن أكثر مما تظهر، وتبحر بالقارئ عميقاً في لجج وعوالم الخفي منها أكثر من المعلن.

الحرب اليمنية لعبة مقيتة، رغم عريها الفاضح، وويلاتها التي تبدأ ولا تنتهي؛ إلا أن الضمائر المستترة فيها أكثر بكثير من الفاعلين العلنيين الذين ليسوا أكثر من أدوات في تجارة حروب، يقودون «أجراء» مدججين بالأمية والسلاح لا ينقصهم الذكاء والمكر.

في «القصيدة الإبداعية»، و«السردية الحديثة»، قد يظن القارئ أن المعنى الواضح والمباشر هو المعني، بينما المعنى البعيد، والأبعد من البعيد، هو المقصود!

في هذه الحرب الشنيعة، يتحدث الناس عن شخوص يقودون المعارك، وأحزاب فاعلة وحية تهيمن على المشهد، و يدور الحديث عن دول منخرطة في الحرب، كل منهم حاضر بمستوى معين. القوى الأكثر فاعلية هي التي لا تظهر في الصورة، وكثيراً ما تدلي بتصريحات ودعوات مخاتلة لوقف الحرب، وللحد من معاناة الشعب، والاهتمام بالحالة الإنسانية، وذرف دموع التماسيح على فضاعات التدمير، والقتل، والمجاعة، والأوبئة الفتاكة، بينما هي المستفيد الأول، والفاعل الأساس في الكارثة المتباكية عليها.

نقف أمام «تراتب» في الكارثة. فالفاعلون المحليون (الأدوات)، هؤلاء هم «الطرف الأول» المباشر، والمعنى الظاهر للحرب والذي تكرسه وسائل الإعلام، والخطاب اليومي، وحتى «حزاوي» النساء- كبطل حقيقي في الحرب، وفاعل أصيل في صناعتها.

خطاب الحرب هو الأكثر زيفاً ومراوغةً والتباساً. فالخطاب لدى كل الأطراف ملغوم، خادع ومضلل. عند «القراءة الأولى» يستوقفنا «التراتب» في صناعة الحرب التي نصطلي بنارها. الفاعلون المحليون هم الطرف الفاعل المباشر، وهم المعنى الظاهري للحرب تكرسهم وسائل الإعلام الكارثية، وخطاب فرقاء الدعاية والحرب، كأبطال وقادة ومسؤولين؛ فهم قادة الحرب وصناعها، وهم من يقرر مصير البلاد والعباد.

في «القراءة الثانية» والمتمعنة، نلاحظ أن الطرف الإقليمي الوارط في الحرب هو الأكثر فاعلية وتأثيراً واستفادة في الحرب ومنها؛ فهو من يدفع الأجر اليومي للفاعلين المباشرين، وهو من يملك تقرير مصائر الحرب، وهم «المستوى الثاني» في هذه الحرب.

الكثيرون من المقاولين الصغار يعرفون طبيعة اللعبة بحكم وعيهم وتجاربهم، وخلافاتهم مع الجلاوزة الذين يستخدمونهم كأجراء ولا يحترمونهم، ويحاصرونهم بالشكوك، ويدفعونهم للمزيد من تصعيد الحرب التي يشاركون في إشعالها.

التراتب في اللعبة قوي وجلي. اللاعب الدولي، وهو أساسي في اللعبة الممتدة منذ فجر الاستعمار، له خطاب خفي وناعم، يسري في الخطاب المهيمن على الحياة، ويدعو إلى احترام حقوق الإنسان، والرفق بالحيوان، ومراعاة القانون الدولي الإنساني، والحرية والديمقراطية والعدل، وهو في الواقع يدعم الأنظمة الفاسدة والمستبدة، يبيعها السلاح والخبرة، ويمنحها الحماية، ويتغاضى عن جرائمها. وربما شجع فسادها وحروبها ضداً على مواطنيها وشعوب أمتها، كما هو حال الكثير من الحكام العرب.

«قراءة المستوى الثالث» في «سردية، أو نثرية الحكم العربي» شديدة التعقيد والتداخل، تؤكد أن العوامل الدولية أقوى من العوامل الإقليمية الضعيفة والهشة. فالمستعمر القديم- الجديد في هذه المناطق التي صنع كياناتها ظل يمسك بأطراف اللعبة فيها. فـ«التحرر الاقتصادي» هو: جوهر ومعنى «التحرر السياسي».

هشاشة الحكم العربي، وفقدان شرعيته ومشروعيته، وضعف علاقته بمواطنيه، أو بالأحرى العلاقة العدائية بينهما، هي ما يجعل النفوذ الاستعماري المهيمن أساس في اللعبة. وإذا ما قرأنا قوة سلطة الحكم العربي، وهي لا تمثل شرعية بأي معنى، فإن هذه القوة غير الشرعية تستمد بقاءها من قوة الحامي الأكبر الاستعماري، وبمقدار ضعفها وعدائية علاقتها بمواطنيها وشعوب أمتها، بمقدار رضوخها للإملاءات الأجنبية حد الطاعة. فالحرب التي شنتها أمريكا ضد العراق ليس فقط لتحرير الكويت، ولا للخلاص فقط من دكتاتورية صدام، كما أوهمنا خطاب الحرب، وإنما، وهذا هو الأهم؛ لتدمير العراق، ونهب ثرواته، وتسليمه لإيران، وتعميق العداوة والصراع العربي – الإيراني، والشيعي- السني، ونهب ثروات دول الخليج، وفتح أبواب الحرب في الوطن العربي كله.

الحروب الدينية التي تخاض تحت راية الطائفة أو المذهب، أو عصابات ما قبل الدولة حروب – وإن كانت أدواتها محلية، وتمويلها إقليمي – إلا أنها استعمارية بامتياز، وشعاراتها التكفيرية والتخوينية زائفة ومؤتفكة.

ما كان باستطاعة ترامب الاعتراف بـ«القدس» عاصمة لإسرائيل، ولا نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لولا تدمير قوة العراق، والحرب في سوريا، وليبيا، واليمن، والسودان، وتفلت الإرهاب في مصر، وتكبيلها باتفاقات «كامب ديفيد».

الإرهاب الإسلاموي بمسمياته العديدة، منذ أفغانستان، وحتى اليوم، صناعة أمريكية، وتمويل خليجي. لم تكن الحرب ضد دكتاتورية بشار، ولا علمانيته الزائفة، ولا ضد دكتاتورية القذافي، وإنما كانت الحرب ضد ثورة الربيع العربي في الوطن العربي كله.

تجارة السلاح، وازياد النفوذ، وتفكيك البلدان العربية وإفقارها، وامتصاص آخر قطرة نفط من أراضيها – هي السبب الجوهري للصراع، والحروب الدائرة، منذ غرس إسرائيل في أرض فلسطين.

الدول الخليجية بقيادة السعودية حاربت صدام وبشار باعتبارهما مستبدِيِّن – وهما مستبدان بحق – ولكن السعودية (المستبدة والشمولية أيضاً) لا تحارب الاستبداد والدكتاتورية في العراق وسوريا، وإنما تحارب «ثورة الربيع العربي»، وتحارب مراكز الثورات القومية المهيئة أو القابلة لثورة ربيع سلمي وديمقراطي أكثر جذرية وخطراً على الاستبداد، والفساد العربي كله.

سردية حرب الشرعية في اليمن حديث خرافة. فحرب السعودية والإمارات ليست في وادي مخرجات الحوار، ولا على بناء الدولة الاتحادية الديمقراطية، ولا تنفيذ القرارات الدولية، وإنما فرض النظام التابع والعميل في أحسن الاحتمالات، وتفكيك المجتمع، وإبعاد شبح الامتداد الإيراني، وإبقاء اليمن كيانات مفككة ومتصارعة، واقتطاع ما تبقى من الربع الخالي، والخلاص من شبح «ثورة الربيع العربي» في «اليمن السعيد» سابقاً.

القراءة مختلفة نوعاً ما. فالبلد مفكك، ومنقسم على نفسه. هناك شرعية يعترف بها العالم، ووجودها على الأرض مدخول بأكثر من وجود مغاير ومختلف. ففي الجنوب يتداخل وجود «الشرعية» أو يحاصره وجود الحراك الجنوبي المسلح، ومعارضة جنوبية بعضها باطن، وبعضها معلن، وتمتد أذرع الحراك والمعارضة إلى قيادتي «التحالف» العشري: السعودية، والإمارات، ولكل منهما أهدافه الخاصة.

وفي مأرب تتواجد الشرعية عبر وسيط شيوخ القبائل، وقوة عسكرية قريبة من «الإصلاح»، وولاؤها – أي شيوخ القبيلة – الأساس للقبيلة في مناطقها، وترتبط بالسعودية للتمويل، والحصول على المال والسلاح، لكنها محكومة في تحركاتها الحربية بقيم وتقاليد وأعراف القبيلة التي تحترم الحدود القبلية، وتتجنب الاشتباكات التي تنجم عنها ثارات، وصراعات قبلية قد تمتد لأعوام.

تعز المدينة المحاصرة تختزن محنة الوطن كله. فالمدينة محاصرة لأكثر من عامين، ورغم الحصار الجائر، والقصف المتواصل، سواء من قبل قوات صالح، أومليشيات «أنصار الله»، وضربات جوية عشوائية تكررت أكثر من مرة من قبل قوات «التحالف» العشري، وطال القصف الأحياء السكنية، والأسواق، والمستشفيات، والمقاهي، وقتل العشرات والمئات، وأثر الحصار على الخدمات الصحية، والمواد الغذائية، ومياه الشرب، ولا تتورع المليشيات التابعة للتيارات السياسية من الصراع مع بعضها، وإقلاق الأمن والسكينة، والتورط في الاغتيالات، والاختطاف، والاعتداء على المواطنين، وابتزازهم. وتقف «الشرعية» موقفاً سلبياً، إزاء نصرة المدينة، وفك الحصار عنها، وإمدادها بالمواد الغذائية، وصرف مرتبات الجنود والموظفين، والاهتمام بالقتلى والجرحى.

المأساة أن «مدينة المدن اليمنية» أصبحت رهينة الصراع في اليمن المرتهن هو الآخر للصراع في المنطقة، وبالبعد الدولي في المستوى الثالث. والأحزاب السياسية الكبيرة مرتهنة «للمبندقين»، وزعماء العشائر الموزعي الولاء بين مناطقهم، والممول الإقليمي.

مقتل صالح يغري التحالف بإمكانية الحسم. وهو وهم قد يطيل أمد الصراع، ولكنه لن ينهيه. «أنصار الله» كفونا مؤنة القراءة والتمعن فيها؛ فهم في «القراءة الأولى» والمباشرة ليسوا أكثر من مليشيات مسلحة خطابها: شعبوي، تعبوي، ملغوم بالطائفية والسلالية المكشوفة. يستندون إلى القبيلة، وإلى الدعم، والمساندة الإيرانية، وليس لهم من شرعية غير سلطة الأمر الواقع.

نهايات الحرب في اليمن مرتهنة للحلول في المنطقة كلها.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد