بلال الطيب
أيوب طارش، هدية السماء لبلسمة جراحاتنا، وصوت الأرض للملمة أشواقنا، في أغانيه دفء وشجن، وفي حضوره تتوه المُفردات، وتتلعثم الكلمات، ويحضر اليمن، تكتمل في تراجيعه أنوثة المرأة، وجاذبيتها، وعفتها، وتبرز في أهازيجه مَفاتن الوطن، بعد أن أجاد رسمها بالكلمة والنغم، وجعل منها لوحة جميلة تُسر الناظرين، وتُبهج المُستمعين، و«لمن.. لمن.. لأجل اليمن؟».
أيوب، زغرودة القلب في ملكوت الجمال، ومنبع الوفاء في قصاقيص العشاق، وقمة التضحية في حب الأرض، جميلٌ كصوته الذي لا يُمل، وكبيرٌ بحجم عطائه الذي لا يجهله أحد، وضع – كما قال علوان الجيلاني – اسمه على كل شيء، وعينه على كل لون، وأذنه على كل صوت، وأنفه على كل عطر، ثم حرك أوتار عوده، فسمعنا – من خلالها – دقات قلوبنا، ولسان حاله: «سأغني، وليذوب العاشقون، وأصحي الليل في عز السكون، نغمات العود آية في الفنون، فيها يحيا الروح، يرتاح البدن».
صنع لنا أيوب ورفيق دربه الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» موروثاً عظيماً، وأغانٍ خالدة، شحنوها بالأحاسيس والتعابير الجميلة، وجعلونا ننقاد إلى أعماق أعماقها بسهولة، ونبتهج بترديدها صباح مساء، لنكتشف مع كل لحظة تحليق جديدة، مشاهد وتفاصيل آسرة، وكأنها لم تمر علينا من قبل، و«طاب اللقاء وا حبيب القلب وافي العهود، طاب اللقاء وا حبيبي فوق عرش الورود، عشنا ظِمأ والندى سكاب من حولنا، تُروى به مهجة الظامي، ويخضرِّ عُود».
غرس «الفضول» في تلك الروائع كيانه، وجدّد في مُفرداتها ذاته الظامئة، وحبه الفياض للحبيبة والوطن، ومزج بينهما، فلا يكتمل حب الحبيبة إلا بحب الوطن، والعكس أيضاً صحيح، وأمام جمال الطبيعة الأخاذ، برز الندى كتفسير نفسي لما عاشه الشاعر من ظمأ عاطفي للحظات اكتمال الحب، وجاء صوت أيوب – النقي، الشجي – ليبعث فيها الحياة، زادها جمالاً فوق جمالها، وقوة فوق قوتها، و«يا حب يا ضوء القلوب البيض في ليل الحياة، يا حب حبيتك وشلَّ القلب من ضوءك ضياه، يا حب غنيتك وخليتك على كل الشفاة».
لا أروع من أن يحس المُبدعون بحب الناس لهم، ومتعة الاحتفاء بهم، وهو الشعور نفسه الذي طال فناننا المحبوب أيوب أثناء تكريمه الأخير في «إسطنبول»، وتمنى أن يشاركه «الفضول» لحظاته، والحق يُقال أنَّ أي تكريم لفناننا القدير، هو تكريم لذلك الشاعر العظيم في قبره، لأنهما بحق ثنائيان يُكملان بعضا، ولا قيمة لأحدهما دون الآخر، ولسان حالهما: «ليس في أيام بُعدي عنك إلا حسراتي، إنها تأتي يتيمات كأيام وفاتي، وبها وحشة قبري، ولها صمت رفاتي»، و«محال أن ينساه فكري، شاعيش في ذكراه عمري، وانزل مع ذكراه قبري».
في لحظة التكريم العامرة تلك، تجلى وفاء فناننا أيوب لرفيق دربه «الفضول»، وتساءل بحسرة، والدموع تكاد تنهمر من عينيه: «لماذا لم يُكرم ذلك الشاعر العظيم في حياته؟»، وهو المُوقف الذي أبكاني وأبكى كثيرين، وترك في القلب غُصة لن تنمحي؛ فكيف لمن غادر دنيانا أن يعود إليها وإلينا مرة أخرى؟! و«يا من رحلت إلى بعيد، قَصِّر مسافات البعيد، لا تدخل النسيان أو ما فيه من صمتٍ وبيد، فلربما عاد الهوى، وأعادك الله المُعيد».
فرحت كثيراً، وفرح كثيرون لفرح فناننا أيوب، وهو مُنتشياً بلحظات تكريمه، مُبادلاً مُحبيه قبلات الوفاء من شفتيه الظامئتين، وضوء الحب يُشع من عينيه المُنهكتين، وصوت الصدق ينداح من حُنجرته الذهبية التي لا تتكرر، فشكراً له لأنه أفرحنا بفرحه، وشكراً لتوكل كرمان التي أفرحته، وشكراً لكل من شارك في صناعة تلك الاحتفائية المُميزة، التي كم كنا – في ظل هذا الوضع البائس – بحاجة إليها، و«فرحتي فرحة الطاير رأى الفجر غبش، ضيف قلبي أتى عندي مُقيل وسامر».
استعدنا من خلال لحظات الفرح الزاهية تلك قصة حبنا الأزلي، قصة عشقنا للأرض، للإنسان، تلك القصة الخالدة التي بدأت فصولها تتشكل من صبا العمر، وفجر الشباب، وأضحت تفاصيلها – بحلوها، ومرها – تتجدد في يومياتنا، لنجدها مع كل إشراقة صُبح، وفرحة طائر، وحنين مُفارق، ونداء مهاجر، ومهيد بتول، ومهجل حاصد، ورقصة راعي، وعهد شواجب، وسحر غروب، وسهر هواجس، وصمود ثائر، وخشوع زاهد، إلى ما هنالك من التعابير الأيوبية الجميلة، و«شاعيش مع العمر أجري لي وراء كل ريم، والعُمر مشوار إما نار وإلاّ نعيم».
أيوب ديمومة الحضور، وقوة التمكُن، منه بدأ الفن وإليه ينتهي، وفنه – كما قال أحمد الشلفي – عابر للمناسبات، والأمكنة، والأزمنة، كان وما يزال كبيراً بعطائه، عظيماً بأخلاقه، خالداً بخلود هذا الوطن، ومُتربعاً على كل قلب، ونحن حين نُشاركه أفراحه، نحتفي بأنفسنا قبل أن نحتفي به، لأنه صار جزء منا، صار جزء من ماضينا، وحاضرنا، ومُستقبلنا، وبك أنت يا أيوب «مُش بالنجم أو ضوء القمر، بك أنت.. مُش بالغيم أو قطر المطر، بك أنت.. مُش بالفجر أو عطر الزهر»، بك أنت لاقانا وواعدنا القدر.