بقلم: بلال الطيب
«من العُدين يالله.. يالله بِريح جَلاَّب»، مَطلَع لِغنائية شَهيرة، فيها شَوق وتَمَـنّ لـ «عُلوم الأحباب»، أعدتُ ذات التمني، فكان لي مَا أردت، قِصةٌ مُختلفة، لثائرٍ مُختلف، أنْجَبته تلك البَلدة الطيبة، حيثُ الطبيعة الخَلابة، والجَمال الأخاذ، على بِساطها الأخضر سطّر ملاحمه البطولية، وفوق ثَراها الأسمر أتقن اختيار مَوته، فاستحق عن جَداره لَقَب «شهِيد الأرض».
على ضِفاف «وادي نَخلة» عاش الثائر الاستثنائي علي عبدالله، الذي حمل اسم منطقته «جُباَح»، وهي عُزلة تابعة لـ «قضاء العدين»، ورث منها الحياء، ومن مَلماتها صقل الكبرياء، تحدى الصِعاب، وجَعلها تلين، حَرث الأرض بتفانٍ ويقين، كانت هَاجسه وقَلقه، اعطاها جُلَّ وقته، وخُلاصة جُهده، رواها بِعرقه، فأعطته ما شاء كيفاً وكما، وللفقراء المعوزين وزع زكاته، ولوجه الله أطال سُجوده، حَامدًا شاكرًا أنَّه لم يُعطه أرضًا سِواها.
فجأة وبِدون سَابق إنذار، توقفت المَواسم عن توزيع ابتسامتها المـَعهودة، لم يَعد صَخبها يَستحث الأفئدة، ويوقظ الحنين؛ عكر القادمون من شمال الشمال صفو اللحظة، جَعلوها كئيبة وباهتة، نهبوا خيرات الطبيعة، أذلوا الرعية، وزرعوا الأوجاع والأنين، حدث ذلك حين قام الإمام يحيى حميد الدين بإرسال «ذئبه الأسود» على الوزير، لاجتياح مناطق «اليمن الأسفل»، بعد أن غَادرها الأتراك، وذلك منتصف العام «1919م».
وحده الشيخ علي عبدالله جُباَح وقَف في وجهِ الطُغيان، رافضًا حَياة الذُل والهَوان، لم يَستسلم كأقرانه، أو يخضع أو يلين، مَضى بحسهِ المُرهف، ووطنيته الفَذة، ونزعته الوجدانية المُتأصلة فيه، مُدافعًا عن الأرض، مُنتصرًا للكرامة، وحين أرسل إليه علي الوزير «أمير تعز» بحشدٍ من العساكر لغرض تَحصيل الجبايات المفرُوضة عليه، وذلك بداية العام «1920م»، طردهم شرَّ طرده، مُؤكدًا وهو صَاحب الحق عدم إذعانه للغازي الغَريب، حتى ولو كان الثمن حَياته.
اتهم المؤرخ المتوكلي عبدالكريم مطهر الثائر «جُباَح» حينها، بـ «أنَّه تحرك للخلاف، وتابع الشيطان، فركب متن الاعتساف، وجاهر الله بمعصية النكث على إمام زمانه، وجمع حوله أصحابه، وباين طريقة أمانه، وقطع الطريق، وأخاف السبيل»، وكشف المؤرخ ذاته عن استعدادات ذلك الثائر لخوض غمار المواجهة، قائلًا: «وكان قد استعد للجِلاد، وجمع إليه من الرُّعاع أجناد، وتأهب لملاقاة جنود الحق».
نتيجة لذلك؛ استشاط «الذئب الأسود» غضبًا، هدد وتوعد، وأزبد وأرعد، وأرسل من فوره حملة عسكرية قوامها «60» فردًا بقيادة قناف الجائفي، لم يَدعهم «جُباَح» وأصحابه يتخطوا شبرًا واحدًا من منطقته، وحين رآهم مستميتون في الوصول إليه، تحصن في منزله الطِيني المُتواضع، مُترصدًا لخطاهم المُرتبكة، فيما ابنته «شلعة» تساعده في تلقيم البندقية، وتحملها عنه لتأمينه حال تسلله لمنزله الثاني للاستزادة بالمؤن والذَخيرة، وكانت بِحق كأبيها شُعلة في الشجَاعة والإقدام.
في غَمرة الدَهشة الممزوجة بالحسرة، تساءل القائد «قناف» والغيض يكسوا مَلامِحه: «من هذا العُديني الذي تجرأ على مواجهتنا، من يَحسُب نَفسه؟»، قرر – حينها – التَوغل بمفردة، مُتجاوزًا طَلقات «جُباَح» التحذيرية، وتحذيرات عساكره، سَقط قتيلًا، مُضرجًا بِدماء الخَيبة، أخذ العسكر جُثته، وانصرفوا راجعين، مُكررين ذات السؤال، مُجددين العزم على العَودةِ مرة أخرى للتشفي والانتقام.
بادر «أمير تعز» بعد ذلك بإرسال «الجنود المحشودة، والكتائب المعدودة» – حد توصيف المؤرخ مُطهر – الذي نقل – كما هي عادته – تفاصيل تلك المعركة برؤية اُحادية سافرة، دون الاشارة لبطولات «جُباَح»، وصمود مقاتليه، بل وتهكم عليه: «ولكنه لم ينفعه الاستعداد، وخذله شيطانه»، وأضاف: «انجلت الحرب عن هزيمة رعاعه، وتشتيت شملهم، وإحراق قراهم، وسقوط العدد الكثير من شرارهم قتلى على الصعيد، فانحصر المذكور في داره الحصين، وناله من رصاص المدافع العذاب المهين، وفي النهاية فرَّ في جنح الليل، وتحت أستار الظلام، وترك داره وما جمعه نهبًا لجند الإمام، وطوته الأرض، فلم يعرف حينئذ مقره».
نَزلت المفاجأة على «أمير تعز» كالصاعقة؛ خاصة حين أفاق ذات صباح و«جُباَح» أمامه بشحمه ولحمه، طفقا يتحدثان وكأن شيئًا لم يَحدُث، كـ «الأسد الهصور» وقف الثائر العُديني في حَضرة «الذئب الأسود»، مُستفسرًا عن سبب إرسال تلك الحَملات، مؤكدًا التزامه بدفع ما عليه من زكوات، بموجب ما حدده الشرع، فما كان من الأمير إلا أنْ صَفح عنه، وأذن له بالعودة إلى عَرينه.
رُغم الخدمات الكبيرة التي قدمها الأمير علي الوزير لسيده الإمام يحيى حميد الدين، إلا أنَّ الأخير تَنكر له، كما تنكر لسواه، خاصة حين كبر الأبناء «سيوف الإسلام»، السيوف الأثرية – حد توصيف أحد الشعراء الفِلسطينيين – وزعَ اليمن بَينهم كإقطاعيات «1938م»، واستحدث تقسيمات إدارية للنواحي والألوية، عمقت القطيعة، وصَعَّبت مُعاملات الرعية، وبِمُوجب ذلك استحدث «لواء إب»، بعد أن كان قضاءًا تابعًا لتعز، ثم لذمار، ثم لصنعاء، وصار «قَضاء العُدين» ملحقًا به، وجَعل عليه الأمير الحسن، أما «لواء تعز» فقد كان من نصيب «أحمد يا جناه»، إلى جانب تعين الأخير وليًا للعهد.
كان الأمير الحسن – ثالث أبناء الإمام يحيى – أكثرهم شبهاً بأبيه، خَلقاً وخُلقاً، كان حقوداً بَخيلا، تجاوز نصائح «مكيافيللي» من الحرص إلى الجشع، وعدَّ الإفراط في الظُلم رحمة، عملًا بمبدأ «هاملت» القديم: «لابد بأن اقسو لكي أبدو رحيمًا»، سام رعية اللواء الأخضر صُنوف العذاب، وحين حَدثت مجاعة عام «1942م»، منع فتح «المدافن» المليئة بالحبوب للناس المتوافدين عليه، وكرر مقولة أبيه الصادمة: «ما يكفي الخلق إلا خالقهم»، فمات أكثر الناس – من الجوع – أمام ناظريه، وحين طلب معاونيه منه أن يصرف أكفانًا للضحايا، أمر أن يقبروا بمقابر جماعية، وبدون أكفان، ليتصدق داؤود الصبيري – أحد التجار اليهود – بشراء الأكفان، أما الأمير البخيل فقد أغلق على نفسه داره، وكأن الأمر لا يعنيه، فاستحق بذلك كره الناس، ولعناتهم.
إذا كان «أمير تعز» المعزول أرسل حملات عسكرية لإذلال «جُباَح»، فإن «أمير إب» المغرور أرسل بجيش كبير لذات الغَرض، مسنودًا بمدفع تركي قديم، وجعل على ذلك الجيش نائبه أحمد السياغي، حطَّت تلك القوات على هِضاب مَنطقة «الوزيرية»، فيما تَكفل الشيخ حَميد دماج بضيافتها، ومن ذات المنطقة صبَّ المدفع المُتهالك حممه على منزلي «جُباَح»، ومنطقته المُسالمة.
حَام الموت حول «جُباَح» إيغالًا بالفتك به، نجا منه أكثر من مَرة، ولأنَّه مُحارب من الطِراز الأول؛ كان يسارع كل ليلة في سد الفجوات التي استحدثتها تلك القذائف، خاصة وأنَّ منزليه مبنيين باللبن الغير محروق، الأمر الذي سَهل مُهمته، وأغاض مُحاصريه، الذين كانوا يفيقون كل صباح على صورة مُختلفة عن تلك التي رسموها، وبعد شهر كامل من الحصار، والقصف المُتواصل، أرسل «السياغي» له بمكتوب الأمان، التقيا، فألزمه بتدمير الأدوار العلوية لمنزليه، وبالفعل لم تنسحب تلك القوات إلا بعد أن نفذ «جُباَح» ذلك الاتفاق المُذل.
كانت العُدين واحدة من ثلاث مَناطق استباحتها قوات الإمام أحمد يحيى حميد الدين بعد مدينتي شبام وصنعاء، وذلك بعد أن أخمد الأخير ثورة الأحرار الدستورية «مارس 1948م»؛ والسبب تمرد الشيخ علي محسن باشا – المساند لتكل الثورة – عليه، وبعد أن كانت تجمعت تحت قيادة الأخير قوات كثيرة من «العدين، وصبر، وبعدان»، إلا أنَّ خبر سقوط صنعاء بيد القبائل حال وتوجه تلك القوات لإنقاذ الأخيرة، عادت أدراجها من مدينة إب، وعاد «شيخ العدين» إلى منطقته مُقاومًا ورافضًا لأكثر من شهر الإذعان لسلطات الإمام الجديد.
وقف الثائر «جُباَح» حينها على شُرفة داره العتيق، يَرقب جَحافل الفيد وهي تجتاح بِلاده، وتعيث فيها نَهبًا وخَرابًا، وحين انحرفت مجموعة من أولئك العساكر المتوحشين نحو أرضه، تصدى لهم ببسالة، وقتل منهم «12» فردا، وهو غير آبه ولا مكترث لغضب السلطات الإمامية الغاشمة.
على ظهر مَترسه القَديم، استحضر «جُباَح» بطولات الأمس القريب، ألقى نظرة وداع خاطفة على الأرض التي أحبها وأحبته، واحتلت قلبه، وعقله، ووجدانه، ورغم أنَّ الحزن لا يليق به، استسلم مُجبراً لأحزان الرَحيل، وانهمك في تأبين أحلامه، وحين رآه «المتفيدون» على حالته تلك، لم يرحموا كهولته المتشبثة بالأرض، صبوا عليه جام حِقدهم، وأردوه شهيدًا – عن «70» عاماً، قَضى معظمها في خِدمة مَحبُوبته، ولسان حاله، يلخصه قول الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول»:
هذه الأرض التي سرنا على
صهوات العز فيها وأتينا
ومَلكنا فوقها أقدارنا
ونواصيها فشئنا وأبينا
أبداً لن تنتهي فيها انتصاراتنا
إلا إذا نحن انتهينا