*عز الدين سعيد الأصبحى :
كان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري يلفظ (العراق العُراق ) بضم العين ورفعها، وعندما سُئل لماذا قال : ” يعزّ عليّ كسر عين العراق ” ! )
ذاك هو رد الكبار، فيما يخص الوطن بأي وجه كان.
وللجواهري علاقة محبة معروفة مع اليمن ! سنأتي على ذكرها.
تذكرت ذلك وأنا أقرأ عدد متزايد، من سطور التذمر في منصات الإعلام الجديد على أوطاننا في مختلف أنحاء الوطن العربي .
هي حالة من القنوط تسود معظم ما يكتب، ولكن أشدها ألماً تلك السخرية من الشعوب وإهانة الوطن! .
يصل الأمر ببعضهم إلى التنصل من الأصل، والتبرؤ من الانتماء للوطن، أما التمادي في رفع الصوت بالهجران والنكران فتجده أينما وليت وجهك في وسائل الإعلام الجديد والقديم، وصار كل من يتباهى بالتاريخ، ويتمسك بالوطن يواجه بتنمر حقيقي.
وأضحى تكريس الصورة السيئة عن الوطن وتاريخ الأمة هو السائد المقبول، كأبرز نتائج الهزيمة العامة التي تصيب الأمة.
ثم يكون ذاك الإنسحاب من الهم العام، والعمل على تشويه كل صورة ممكن أن تبعث على الأمل!
ويتعمدون تكريس حالة من اليأس المخيف، نعم هناك انكسار كبير، تلك حقيقة لا يمكن نكرانها، ولكن الخروج من الأزمة يكون في تغيير الواقع ومواجهة التحديات، وليس في النيل من هيبة الوطن وإهانة تاريخه والتنصل من الانتماء إليه.
اندهش لأصوات عدة تنكر أصلها وتتعالى على أوطانها .
وهو ما أراه نوع من الانتحار الجماعي أكثر منه مجرد غضب أو خروج عن قواعد التربية السليمة! .
كان الشاعر الساخط أو الكاتب الغاضب على الوضع، يقسو على واقعه لكنه لا يهين تاريخ بلده ولا يخجل منه ! .
بل يتباهى مذكرا بضرورة عودة أمجاد ذهبت، أما الآن ما عاد ذلك ممكنا بل وإن تم فيكون مثار لسخرية متنمرة.
بالعودة لمراحل مرت بها أمتنا العربية، وحدثت بها إنكسارات عدة، تجد أن هناك أمران بقيا على ثباتهما :
الأول :وعي المجتمع من خلال مثقفيه في جعل سخطهم ونقدهم منصب على ممارسات الأنظمة وسلوك الأشخاص وليس في النيل من الوطن والأمة.
والثاني : في بقاء تمجيد الانتماء للوطن وتاريخه بكل توقير يليق به، ولا قبول بتسفيه تلك الجوانب، وذلك ما حافظ على جوهر التماسك المعنوي رغم الهزائم ونكبات الخسارة، ومن وجهة نظري، فإن تلك المواقف للنخبة حافظت على أبرز ما نفتقده الآن وهو بقاء الأمل متقدا.
الآن نحاصر بمنهج إعلامي مكثف لتعزيز التفاهة على مستوى كل محفل، ولقتل الأمل في نفوس الناس !، وتلك لعمري أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسامِ المهنّدِ، كما قال عمنا طرفة بن العبد ذات تأريخ مجيد !.
كون قتل الأمل في نفوس الناس يولد إحباطاً مميتاً ،ويُصدِّر للمشهد كل ما من شأنه إسقاط مشاريع اليقظة .
واذا كنتُ قد بدأت بالجواهري وجملته العظيمة، فإني أختم به مذكرا بموقف له من اليمن، وأنا فيها، فلقد كانت له علاقة محبة معروفة مع اليمن.
وماتزال قصيدته ( من موطن الثلج ) خالدة عنها، وقالها عندما زار عدن في 1981 قادما من منفاه في براغ آنذاك.
واستقبلته عدن بحفاوة بالغة تليق بمكانة الشعر وفي مطلعها يقول :
– من موطن الثلج زحافا إلى عدن **
تسري بي الريح في مهر بلا رسنِ.
– من موطن الثلج من خضر العيون به **
لموطن السحر ، من سمراء ذي يزنِ.
– و في بيت بديع من قصيدته يقول :
وناقل التمر عن جهل إلى هجر **
كناقل الشعر موشياً إلى اليمن.
وذاك توظيف لمثل عربي شهير استعملته العرب عن كل من يعيد قولا إلى أهله انه : (كناقل التمر إلى هجر).
قال ابن ميثم البحراني: عن أصل هذا المثل أن رجلاً قدم من هجر إلى البصرة بمال اشترى به شيئاً للربح، فلم يجد فيها أكسد من التمر،
فاشترى به تمراً وحمله معه إلى هجر (وهي محل فيه عيون وبلاد واسعة تمرها أحسن )، فلم يزدد تمره الذي جاء به إلا رخصاً.
وهو توظيف فيه تعظيم لليمن من شاعر كبير مثل الجواهري
وتلك أخلاق الكبار وتواضعهم
رحم الله الجواهري ،
ورفع الله قدر أوطاننا جميعا ولا كسر لها عين !.
* سفير بلادنا في المغرب
**نقلا عن جريدة الأهرام المصرية