بلال الطيب :
حجة أرادها الطُغاة سجناً، فحولها الأحرار إلى مُتنفس للحرية، من خلفِ أسوارها تسللت أفكـارهم، ومن تحت ثَراها أزهرت أماني من قضـوا نحبهم، جيء بهم مـن كُـل اليمن، فصاروا أخوة في التُراب والمَصيـر، زرانيق تهامة كـانوا الأكثر عـدداً وتضحية، وفي مقبرة ما زالت تَحْمل اسمهم، ترقد أروح «800» من أبطالهم بسـلام، وفي حجة كمـا في تهامة أذلـوا سجانيهم وقاتليهم، وعلمـونـا مَعنى أن يكـون المَـرء سَيـد نَـفسـه.
بعد حرب مُتقطعة ـ أستمرت لـ «7» سنوات ـ بينه وبين «الأدارسة»، تمكن الإمام يحيى من السيطرة على الحديدة «27مارس1925»، وقد تصدت قبائل «الجرابح» لقواته بـ «الزيدية»، شمال ذات المدينة، وحدثت هناك معركة كبيرة، كان النصر فيها حليف القوات الغازية، وبسقوط تلك القبيلة سقطت تهامة كلها باستثناء أراضي قبيلة الزرانيق، المُمتدة من الحديدة حتى زبيد.
نشوة النصر جعلت السيف أحمد ـ «أمير حجة» حينها ـ يرسل إلى الزرانيق بحوالي «50» مقاتل ـ وقيل أكثر ـ جلهم من «خولان»، بقيادة حسين بن عامر، بعد أن تناسى أنها استعصت على من قبله من الأئمة، وأنها لم تخضع لـ المطهر شرف الدين ـ قبل ثلاثة قرون ـ إلا باتفاقية صلح، بعد أن حاربها لأربع سنوات، حتى الأتـراك أنفسهم لم يستطيعوا إخضاعها، كانوا يغضون الطرف عنها، ويصبغون على كبرائها بهدايا الصداقة، فكيف بقواته المنهكة، وميزانية الضئيلة، وما أن اقتربت تلك القوات من تلك الأرض المحظورة، حتى قام أصحابها بقتلهم جميعاً، وفي يوم عيد الأضحى «1925».
المدونات الرسمية المتوكلية أغفلت ذكر تفاصيل تلك الحادثة، واسم قائدها؛ خوفاً من تجسيم خطورة الزرانيق، وحتى لا ينتشر الرعب حينها بين القادة والأنصار، وكذلك فعل المؤرخ «الواسعي»، الذي أشار إلى ذلك القائد بوصفه السيد الفاضل، صحيح أن «زبارة» ذكر الاسم فيما بعد، إلا أنه لم يتعمق في التفاصيل أكثر، وقد نقل الأخير عن سيف الإسلام أحمد، قصيدة رثى بها القائد الصريع، وطغى على رثائه تجسيم التمرد، وتشبيهه بـ «تجمع الأحزاب»، وتحريض الناس للجهاد، قال في مطلعها:
الله أكبـر فـادح جـلل … أصاب أهل الهدى من جوره الخطل
الله أكبر هـذا الفرق قد جمعت … أحزابه وأتت كالنار تشتعل
ثورة شاملة:
وجـود القوات الإمامية في تهامة، مَثَلَّ شوكة في خاصرة قبيلة الزرانيق، ولأن أبنائها شرفاء، الفوا الحُرية، أعزاء، لا يرضون الـذُل، استعـدوا لمعركة التحرير جيـداً، وحين صاروا قادرين على المُواجهة، بعد أن بلغت قواتهم المُدربة حـوالي «10,000» مقاتل، ما يقارب «10%» من إجمالي سكان القبيلة آنذاك، أعلنوها ثـورة شاملة، وذلك صيف العـام «1928».
في البدء قاموا بعدة عمليات هجومية على الثكنات العسكرية القريبة من مناطقهم، نهبوا عتاد عسكري ومؤن تكفيهم لمدة أطول، وقطعـوا الطرق، وخطوط التليغراف، وحين وصلت أيديهم إلى الحديدة، وتمكنوا من إبادة حامية عسكرية بكاملها بالقرب من قرية «المنظر»، المجاورة لذات المدينة، أدركت السلطات الإمامية خطورتهم، فبادرت بإرسال حملة عسكرية تأديبية بقيادة هاشم الدعاني، إلا أن أبناء الزرانيق، وبقيادة الشيخ أحمد فتيني جنيد، تصدوا لها بقرية «كتابة»، وقتلوا قائدها.
يتهم المؤرخون الإماميون الشيخ فتيني بأنه أستدرج تلك الحملة إلى أدغال الزرانيق، بعد أن رحب بأفرادها، وأوهم قائدها بإظهار الطاعة، وهي رواية مشكوك بها، خاصة وأن الشيخ المتهم رفض حينها عرض الإمام يحيى بتعينه حاكماً على تلك النواحي.
أمـام ذلك الإرباك، لم يَجـد الإمام يحيى المشغول حينها بتثبيت دعائم ملكه، سوى ولده سيف الإسلام أحمد، ـ أمير حجة، ومُذل حاشد، ورجل المهمات الصعبة ـ لإرساله لإخمـاد هذه الثـورة، وتأديب من أشعلـوا فتيلها، خاصة وأن الحملات السابقة قد فشلت ولم تؤتي أكلها.
ما أن يُخضعـوا قبيلة إلا ويَـرمون بها أُخرى، ديدن الأئمة الزيود على مَـدى تاريخهم، وحين استعصت عليهم حاشد، أوقعوا الفتنة بين قبائلها، ثم أنقضوا عليها، «سَلبَوا، ودَمرَوا، وقـَتَلوا، وهَجرْوا» وألزموا مواطنيها بـ «أحكام الشريعة، وتوريث النساء»، حد وصف المؤرخ «الجرافي»، مات بعض مشايخ حاشد في سجن «غمدان»، فاضطر الإمام يحيى أن يُفرج على من تبقى، مكتفياً بأخـذ أبنائهم كرهائن.
جاء السيف أحمد، وقاد رعـايـا حاشد المهزومين صـوب تهـامـة «أكتوبر 1928»، ضمن جيش عرمرم تجاوز عدده الـ «10,000» مقاتل، جهزه لكسر شـوكة قبيلة الزرانيق العاتية، وقد انطلقوا إليها، وهم يرددون «زوامل» حرب شنيعة، منها:
يا عباد الله قوموا للجهاد
واضربوا من كان مُفسد في البلاد
وانصروا ابن الإمام
ومنها:
جاك سيل الله يا صاحب تهامة … مقدم السيف المظلل بالغمامة
نضرب الزرنوق في داخل خيامه … راعد القبلة ورد شرفا وجرمل
قسم السيف أحمد تلك القوات إلى فـريقين، فريق تسلل من جبال ريمة، وأخر توغل من أطراف زبيد، وما أن استقر في المدينة المذكورة، حتى أرسل لمشايخ الزرانيق برسالة، جاء فيها: «ونحذركم الخلاف، والتنكيب، والاعتساف، وسفك الدماء، وإثارة الدهماء، فإن سلكتم طريق الصواب عاد جوابكم بالوصول، وإن اخترتم طريق الشيطان فهذا بلاغ للحجة».
في حوار صحفي أجري معه ونُشر قبل وفاته، قال الإمام أحمد كلاماً كثيراً عن الزرانيق، الاسم الكابوس الذي ظل يورقه طول حياته، وقد وصفها بالقبيلة العاتية، وأبطالها بالخناذيذ، وهم حسب حديثه خرجوا عن طاعة أبيه، وقطعوا الطرق، وانتهكوا الحقوق، وأخذوا الإتاوات، وأغاروا على مدن تهامة ومراكزها، لا يخافون سلطان، ولا يردعهم رادع.
وأضاف: «عاثوا، أفسدوا، وكثر تعديهم على المراكز الإمامية، واستشرت أطماعهم، واشتطت مطالبهم، واعتقدوا أن أي قوة لن تقوى عليهم، لذلك كان من الأنجح الفتك بهم، والقضاء على شرهم، قضاء حاسماً، خصوصاً بعد أن استهانوا بالوزير أولاً ـ يقصد عبدالله الوزير ـ وبالبدر ثانياً ـ يقصد أخاه «أمير الحديدة» حينها، والذي مات فيما بعد غرقاً ـ أثناء نيابتهما عن الإمام بالحديدة، فعلق الإمام يحيى بقوله: ولا أدري من يرجى لأخذنا للثأر، قلت: أنا لها يا مولاي، أنا الذي بصارمك البتار أكفيك أمرها، وأفتك بها كما فتكت بغيرها».
ثم يمضي الإمام أحمد في ذلك الحوار الطويل، متحدثاً بزهو عن ماضيه الأسود، وعن خططه العسكرية، شارحاً تفاصيل المواجهات الأولى، وهو رغم اعتزازه بنفسه، أشاد ببطولة الزرانيق، وشراسة مقاتليهم.
كمائن مُتقنة:
تهامة البسيطة المتواضعة، أنجبت أبطال الزرانيق الأفذاذ، كانت قبيلتهم تسمى في الجاهلية بـ «أزد شنوءة»، وكان رجالها ينعتون بـ «عمالقة الصحراء»، ولم تعرف باسمها الخالد «الزرانيق»، إلا في القرن السابع الهجري، نسبة لـ زرنيق بن الوليد بن زكريا، الذي يصل نسبه إلى عك بن عدنان، وتنقسم إلى قسمين، «زرانيق الشام»، وهي المناطق الممتدة من شمال «بيت الفقيه»، مروراً بـ «المنصورية»، وصولاً إلى تخوم «ريمة»، أما القسم الجنوبي، فيمتد من جنوب «بيت الفقيه»، إلى منطقة «القصرة».
ماضي أبناء الزرانيق كحاضرهم، مُشبع بروح المقاومة، وهم أهل البلد خَبـروا السهل، وأجـادوا ترويضه، فيما الغازي الغريب، القادم من أعالي الجبال، جاء بـ «انتفاشة كاذبة»، يعتقد أن السهل سهلاً، وأن أهل السفح سواء، كان صيداً ثمينا لعدة كمائن مُتقنة، وغارات ليلية ناجحة، وحين حصر الضحايا، الذين تجاوزوا ـ كما أشار «الواسعي» ـ الـ «1,000» قتيل، أدرك «عَبيـد الفَيـد» أنهم اُقتيدوا إلى مَتـاهـة مُـوحشة، الخروج منها كما الدخول، كلفهم أيضاً الكثير، والأسـوأ أنها جعلت سمعة قائدهم المغرور في الحضيض.
دارت أولى المواجهات في منطقتي «الجحبا العليا»، و«الجحبا السفلى»، لم يتقدم حينها السيف أحمد أكثر، وكان يناوش مقاتلي الزرانيق من بعيد، وهو رغم ذلك لم يجنِ من مقاتلي حاشد المَهزومين سـوى الهزائم المتـتـاليـة، وما آلمه أكثر، انسحاب مقاتلي «قبيلة حجور»، وهو في أمس الحاجة إليهم، وقيل أنهم لم يشاركوا في تلك الحرب، الأمر الذي أغضبه، فهجاهم بقصيدتين طويلتين، جاء في إحداها:
كلما رمت أن تجود حجور … بان خسـرانها وآل الدبـور
قـدمـوا أولا بجحفـل جيش … ليـس يـأتي بـوصفـه التعبير
ثـم فـروا فـرار قـل و ذل … و تناهـوا عـن الجميل فغوروا
فأردنا تعـديـل ذلكم الميل … عسى يستـوي لهــم تدبيـر
فتولوا عـن الجهاد و صدوا… عن سبيل عند الملا مشكور
لحظات عصيبة عاشها سيف الإسلام أحمد، وهـو الذي لم يُهزم في معركة قط، والمُستبد الذي لم يركن حتى لاستشارة أقرب مُعاونيه، وبعد أخـذ ورد بينه وبين نفسه، لم يَجـد سوى البحر كخيار مُكلف ومُنقذ لغروره، فمن هناك يأتي الدعم الإنجليزي ـ كما يعتقد ـ للزرانيق، وإلى هناك تسلل بقواته، في البدء أسقط «ميناء الطائف»، وبعد محاولة فاشلة وأخرى ناجحة، أحتل «ميناء غليفقة»، الذي أهمل الزرانيق تحصينه، وصادر جميع سفنهم، ومراكب صيدهم.
بسقوط «غليفقة» فقدت مقاومة الزرانيق زخمها، وهو الأمر الذي أجبر قائدها الشيخ أحمد فتيني جنيد على الالتجاء بالمعسكر الانجليزي في «جزيرة كمران»، منيباً عنه الشيخ محمد حسن الفاشق، ومن هناك طالب «فتيني» الإنجليز بدعم قبيلته في نضالها ضد الإمام يحيى وأعوانه، كما أنه ـ وكما أشار «العرشي» ـ طالب بحق تقرير المصير، وناشد «عصبة الأمم» بالتدخل لإنهاء ذلك الصراع.
أمام ذلك التصرف «الفتيني»، صار جميع ثوار الزرانيق بلا استثناء عملاء للإنجليز، وراحت السلطات الإمامية تشنع عليهم، وتحتقرهم بأقذع الصفات، رغم أنهم سبق وثاروا ضد الانجليز، وكانوا سبب خروجهم من الحديدة «21مارس1921».
في كتابه «اليمن الجمهوري»، استبعد «البردوني» تلك التهمة عن أبطال الزرانيق، مضيفاً: «فمن الجائز أن يكون الفتيني متآمراً، أو مستعيناً بالإنجليز، لغياب أي نصير»، وغير بعيد قال «تشرشل»: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، والغريق في النهاية لا تهمه جنسية من ينقذه.
وفي المقابل، قال المؤرخ التهامي عبد الرحمن طيب بعكر أن دعم الإنجليز لـ «قبيلة الزرانيق»، لا يستنقص من أبطالها، ولا يعني أنهم عملاء، معتبراً تمسح الإنجليز بذلك، للضغط على الإمام يحيى حينها، كي يتخلى عن المحميات التي احتلها في الجنوب.
ذات السلاسل:
عام جديد أطل «1929»، ولم يحقق سيف الاسلام أحمد أي انتصار، وهو المُتكبر العنيد لم يستسلم لليأس، أطلق صيحته الشهيرة «الجاح» ـ اسم وادٍ شهير هناك، دارت في أحراشه كثير من المعارك ـ مُستنجداً بأبيه وبأمير تعز آنذاك علي الوزير، طالباً المدد، بعد أن أجبره المقاومون على الفرار، وقد خاطب الأخير بالقول: «يا جمال الدين هل من غارة»، وهي قصيدة «أحمدية» طويلة، شبهَ بها مقاتلي الزرانيق بـ «الجن» لكثرة فتكهم بعساكره.
قال فيها:
صاح أن الجاح أضنى فؤادي … وكسا عيني بأنواع السهاد
فجميع الجيش عندي نصفه … هده السقم بآفات شداد
لم أجد جيشا وعونا للذي … رمته إن خضت بحر للجلاد
وقال أيضاً:
صاح أن الجاح مصدق الفعالِ … يعرف الأشوس منا في القتال
تعلم الأيام من أشجعنا … وترى الأمضى سرى تلك الليالي
كلما أعملت في القوم الردى … طلعوا كالجن من بين الرمالِ
دفعت تلك المناشدات الإمام يحيى لتجييش أبناء القبائل الزيدية، وتأليبهم لنصرة ولده، قائلاً لهم: «انصروا مذهبكم»، وبالفعل تحركت قوات كثيرة صوب تهامة، لنجدة سيفه المثلوم، وكانوا ينشدون:
سادتي أنتم نجوم الأرض دايم
من سعادتكم نزلنا التهايم
نرضي الله والإمام
ما أن وصلته تلك الإمدادات، حتى أعاد السيف أحمد الهجوم على «وادي الجاح»، في البدء سقطت «الدريهمي»، لتقوم قواته فيها وفي محيطها بعمليات سلب شنيعة، حتى الأشجار لم تسلم من أذيتهم، قطعوها، وأحرقوا ما تبقى، باتوا ـ ليلتهم تلك ـ في «سائلة الجلة»، ولم يأتِ عليهم صباح اليوم الثاني، إلا وأبطال الزرانيق فوق رؤوسهم، هزموهم شرَّ هزيمة، وقتلوا القاضي القيسي أحد أبرز قاداتهم، وأجبروهم في النهاية على الفرار، وغنموا من عدتهم وعتادهم الشيء الكثير.
اتهم الحاكم البريطاني حينها لجزيرة «كمران» السلطات الإمامية بإقدامها على «حرق ما لا يقل عن ثلاث عشرة قرية، وتدمير نحو ثلاثين قارب، وتسميم معظم الآبار، وقطع الآلاف من أشجار النخيل، ومصادرة معظم ما تمتلكه القبيلة من ثروة حيوانية»، وتذكر إحصائية أخرى أن القوات الإمامية أقدمت على نهب «100» منزل خارج قبيلة الزرانيق، لأناس مسالمين لم يكن لهم في تلك الحرب ناقة ولا جمل.
بعد سقوط «الدريهمي» نقل أبطال الزرانيق مركز قيادتهم إلى الساحل «فبراير 1929»، أما السيف أحمد فقد أستقر مدة بـ «جبل قحمة»، شمال «بيت الفقيه»، مُكثفاً من استعداداته لجولة حاسمة، خاصة بعد أن صارت ذات المدينة تحت نيران مدافعه، في البدء أرسل بمكتوب للشيخ يحيى منصر معروف، وغيره من مشايخ «زرانيق الشام»، طمنهم فيه، وقال أنه لا يريد حربهم، كما حثهم على الاستسلام، والدخول في طاعة الأمام، وقد رد عاقل «عزلة التينم» عليه: «إذا كان الله ملك أحمد أرضنا، فلن نملكه أرواحنا وفينا عرق ينبض».
في صباح اليوم التالي، تحرك السيف أحمد يجيشه الجرار، قاصداً «بيت الفقيه»، بعد أن ظن أن «مكتوبه الخدعة» سينطلي على الثوار، وأنهم سيركنون للدعة والاستقرار، كلف أحمد السياني بالمرور من طريق «العباسي»، إلا أن المقاومين كانوا للأخير ومن معه بالمرصاد، أما هو فقد تحرك صوب قرى «الباردة، والحيدرية، والقزعة»، وبعد أن عاث فيها نهباً وخراباً، قرر الهجوم على قرية «القوقر»، وهناك حصل له مالم يكن في الحسبان.
الثلاثاء «6 مايو 1929»، ليس يوماً عادياً في تاريخ قبيلة الزرانيق، وتاريخ رجالها الأشاوس؛ بل كان يوماً مشهوداً، حدثت فيه معركة كبرى، شهدت «القوقر» فصولها الدامية، أُجبرت فيها قوات السيف أحمد على الفرار، بعد أن تركوه وحيداً، مخلفين ورائهم عشرات القتلى، بينهم قادة كبار، منهم يحيى بن محمد، حفيد الإمام «الهادي» شرف الدين، وعبد الرحمن بن محمد المتوكل، وغيرهم.
يقول كاتب السيف أحمد، المؤرخ حسن بن أحمد الإرياني، في كتابه «صادق التحاقيق بما حدث في قبيلتي حاشد والزرانيق»: «أقبلت جموع الزرانيق من كل جهة تتنمر، وأقدموا إلى القتال فما منهم من تأخر، فجرت معركة عظمى، شرب الرمل من دم القتلى، وأجلى البغاة المجاهدين من القوقر، وتبعوهم تبعة رجل واحد، وأحس مولانا بفرار الجيش، وهجوم البغاة، وأسرع إلى تأمين روع الجيش، وأمر بعض الخيالة برد من جدّ في الفرار، فلم يجدي ذلك؛ بل فروا حين رأوا ما لا قبل لهم به».
من جهته أرجع المؤرخ التهامي عبدالودود مقشر سبب شهرة تلك المعركة على سواها، لأسباب كثيرة، أهمها استخدام المقاومين لتكتيكات حربية جديدة، كتقييد أرجلهم بسلاسل حديدية، والقتال حتى الموت، واختيارهم لـ «100» فدائي، كمشاريع هجومية استشهادية، التقى بعضهم بالسيف أحمد وجهاً لوجه، وكادوا يقتلوه، وقد نجا منهم بأعجوبة.
وفي الحوار الصحفي الذي سبق وأشرنا إليه، قال الإمام أحمد عن تلك المعركة: «والتقينا معهم وجهاً لوجه، ودارت أعنف المعارك حتى كادوا أن يستولوا على المدفع السريع، ولكننا صديناهم واسترجعناه من بين أيديهم بالسلاح الأبيض، وهذا كله صورته في إحدى قصائدي»:
ولما رأيت الجيش قد فل حده … وقد رجع الأعقاب بعد التقدم
ونادي باسمي المستجير من الردى … لإدراكه والشر في الناس ينتمي
وقد تركوا ذاك السريع بمهمة … وحيداً عن الجيش الخميس العرمرم
كررت بطرف يسبق الطرف عده … جواداً كريم الأصل غير منعم
فجالدت أعداء الإله بجمعهم … وكانوا أحاطوا كالسوار بمعصم
ودافعت عن ذاك السريع فحزته… وقد كان للأعداء أكبر مغنم
وفي «القوقر» المعروف قد كان كل ذا … الا فاسألوا عني أهل المخيمِ
تأكيداً لذلك، يقول صاحب «صادق التحاقيق»: «لما عرف بعض رؤساء البغاة أن المكافح لهم هو مولانا، كادوا يلقون بأنفسهم عليه، فمنهم من يقابله بالرمي، ومنهم من يسير إليه بأن يدني منه، ومنهم من سعى إلى مولانا سعياً بلا اكتراث، وهو الشيخ عمر أحمد من مشايخ قبيلة الجحبى المنضمين إلى الزرانيق، لم يبق بينه وبين مولانا إلا قدر خطوات يسيرة، وكانت له إرادة خبيثة، فما نال إلا ما يستحق، وما ظفر بما لم يطق».
غير عمر أحمد، هناك محمد يحيى دحيا، وأحمد شلاع جروب، قاما بذات الموقف، الأخير كان أكثرهم شجاعة، توجه كالإعصار صوب السيف أحمد، قاصداً قتله، وهو يصرخ: «أحمد لاقى أحمد»، إلا أن حراس السيف أحاطوا به، أسروه ووضعوه على فوهة المدفع السريع، لم يخف لحظتها؛ بل ركل ذلك المدفع بقدمه، وقال مخاطباً سيدهم: «مدفع.. مدفع الراحتين ودينا»، وكانت نهايته شهيدا كأصحابه.
هجوم شامل:
أثناء حصاره لـ «بيت الفقيه»، مُني السيف أحمد بعدة هزائم، وخسر الكثير من المعدات، وصارت أحراش تهامة مَقبرة لغروره، ولأجساد عساكره، وقد أرسل له والده الإمام يحيى برسالة، عاتبه فيها على تأخره في حسم المعركة، وهدده بأخذ قيادة الجيش منه، وتسليمها لعبدالله بن أحمد الوزير، استشاط حينها غضباً، ورد على أبيه بأنه إذا أرسل «الوزير» فإنه قاتله لا محالة.
حين أعيته الحيلة في كيفية اقتحام «بيت الفقيه»، قرر السيف أحمد أن يستشير معاونيه، ليبرز هنا مُقدم في الجيش، اسمه يحيى إسماعيل الردمي، وضع الأخير خطة عسكرية مُتكاملة، وتعهد بتحقيـق النصر في غضون أيام، إذا سلمت له دَفـة القيـادة، وافـق السيف أحمد على مضض، وأكتفى بمراقبة سير المعارك كـ «قائد أعلى» بلا قيادة.
تحقق النصر على يد «الردمي»، وفي يوم الاثنين «9 أكتوبر1929» سقطت تحصينات مدينة «بيت الفقيه»، حاضرة الزرانيق الزاهية، حيث الولي «ابن العجيل» بخل بـ «ام كرامه»، هدموا قبته، وأمر بالأذان بـ «حي على خير العمل» في كل مكان، ثم أطلق السيف أحمد لعساكره المتوحشة حرية «القتل، والتدمير، والنهب، والحرق»، ولمدة أسبـوع كامل، وكانوا «يزملون»:
يوم على بيت الفقيه والدم سائل
والله السيف شلَّ الجمالة
ما تحجى واختفى
بندق النُّبوت في يد اليماني
من ثعابه لا عدن
وكشفت تقارير القنصل الأمريكي في عدن حينها عن مدى فظاعة الجرم الإمامي في حق «بيت الفقيه» وسكانها، جاء في إحداها: «أبدى المهاجمون للمدينة وحشية مفرطة، حيث لم يفرقوا بين الرجال المقاتلين، والشيوخ والأطفال»، وذكر تقرير آخر أن السيف أحمد طالب أبناء الزرانيق بدفع غرامة مالية مقدارها «40,000» ريال «ماريا تريزا».
وكان الشيخ محمد بن عقيل ـ جد المتحوث سهل بن عقيل ـ المقيم حينها في الحديدة، والقادم من حضرموت، قد أفتى بجواز قتل أبناء الزرانيق، ونهب ممتلكاتهم، وحين تحقق للقوات الإمامية النصر، أرسل إلى «أمير الحديدة» السيف محمد مهنئاً، وقد جاء في رسالته: «فوالله أزاح هذا الانتصار كابوساً على قلوبنا، طالما قاسيناه، وكم كنا نتمنى ذلك اليوم الذي نسمع فيه بسحق الزرانيق، ويا ليتني كنت مع الفاتحين، لكنت تقربت إلى الله بقتل صغارهم قبل كبارهم».
الرواية الرسمية المتوكلية لسقوط «بيت الفقيه» لم تشر إلى قصة الردمي ـ السابق ذكرها ـ تحدثت عن قيام السيف أحمد بهجوم شامل على ذات المدينة، وأن الهجوم الأبرز كان من الجهة الجنوبية، قاده «عامل زبيد» محمد عبدالله الشامي، الذي تحرك بقواته صوب «الحسينية»، أحد المعاقل الرئيسية للمقاومة، لتدور فيها معركة كبيرة، أسفرت عن هزيمة الزرانيق، وقتل عدد من أبطالهم، كان عمر معوضة معروف أبرزهم.
في كتابه «إمام اليمن» قال محمد أحمد الشامي عن أبطال الزرانيق أنهم قوم حرب وبطولة، وان قتالهم عن أرضهم كان كقتال الأسود الضواري، وأن نيران بنادقهم كانت تنصب على جبهات العساكر بلا توقف، وأضاف: «استمر الصراع رهيباً فضيعاً مطبقاً، واستطاع السيف أحمد أن يتخذ له عيوناً في بيت الفقيه، وجاءته الإمدادات تلو الإمدادات من الحديدة وتعز، وبعد معركة طحون رجع كل الفريقين إلى معسكره».
في تلك الليلة وصلت أخبار من «بيت الفقيه» بـ «أن خسائر الزرانيق في النفوس والعتاد فادحة، وأن قواهم المعنوية محطمة»، قرر السيف أحمد حينها الهجوم، ونجح عساكره باقتحام المدينة، وجاء وصف «الشامي» لذلك: «وكان قضاءً مبرماً، وانتصاراً ساحقاً، على قبيلة لم تعرف الهزيمة منذ أمد بعيد».
سقطت «بيت الفقيه»، وما كان لها أن تسقط، لولا الحصار المُطبق الذي استمر لشهور، والتكتيكات العسكرية التي ابتكرها «الردمي»، قـائـد تلك الهزِيمة، كما أن الدعاية الإمامية المكثفة، التي عملت على تضخيم السيف أحمد، بإشاعة أن الرصاص لا يخترق جسده، وأن الجن ينقادوا له، أثارت الخوف والرهبة في قلوب كثيرين، أما السبب الأبرز، والأكثر تأثيراً، فيتمثل بدخول بعض المشايخ من «آل منصر» وغيرهم، في طاعة السيف أحمد، وهو التصرف الذي كان كـ «القشة التي قصمت ظهر البعير».
حرب عصابات:
سقطت «بيت الفقيه»، إلا أن عزيمة أبطال الزرانيق لم تسقط، استمروا بحرب العصابات، وقاموا بعدة عمليات هجومية، استنزفوا من خلالها الغزاة بشرياً ومادياً، وهنا برزت مقدرات الشيخ أحمد فتيني القيادية، الذي قاد معظم تلك المعارك الساحلية ببسالة منقطعة النظير، بعد أن أتخذ من الجزر المجاورة مقراً لعملياته، وقد كان بشهادة كثيرين شجاعاً مهاباً.
بعد أسبوع واحد من سقوط «بيت الفقيه»، قام الثوار بهجوم مباغت على «الحسينية»، وهي حادثة تحدث عنها المؤرخ «زبارة»، إلا أنه لم يشر لضحايا القوات الغازية ـ كما هي عادة غالبية مؤرخي الإمامة ـ حيث قال: «حصل التعدي من بعض قبيلة الزرانيق على مطرح أصحاب الإمام بالحسينية، ودخلوا إلى وسط المحطة، فكانت ملحمة جسيمة، قتل فيها نحو الأربعين من الزرانيق، وأخذت أسلحتهم وفرَّ بقيتهم».
وفي يوم الجمعة «22 نوفمبر 1929»، حرر الثوار «ميناء غليفقة» ليوم واحد فقط؛ بعد أن حاصروا ما فيه من عساكر، وأجبروهم على المغادرة، كما أنهم كانوا يراقبون تحركات السيف أحمد، الذي حلَّ بعد ثلاثة أيام من تلك الواقعة بمنطقة «الطائف» الساحلية، هجموا عليه، وكادوا يفتكوا به، لولا وصول الإمدادات بقيادة «الضمين» و«المروني»، ليفرَّ بعد ذلك هارباً إلى «الدريهمي».
وفي «مارس» من العام «1930»، حاول الثوار قطع طريق المواصلات في «ساحل الكويزي»، الواقع بين منطقتي «الطائف، وغليفقة»، إلا أن السيف أحمد أفشل الأمر، ووزع قواته على جميع السواحل المحاددة للزرانيق، خاصة بعد أن تبادر إلى مسامعه بأن الشيخ أحمد فتيني يتأهب للعودة، وأنه وعد أصحابه ـ كما أشار صاحب «صادق التحاقيق» بـ «تقويتهم، وإمدادهم ببعض المطلوبات والأرزاق، والقوة التي يتمكنون منها الهجوم على مركز الطائف وغيره من المراكز، ويستعينون بها على تطويل الفساد».
أسماء كثيرة لقادة عظام لمعت في تلك الملحمة، بعد أن قادوها ببسالة، كان الشيخ أحمد فتيني جنيد أبرزهم، وقد روي عنه أنه كان يمضغ القات قبل إحدى المعارك، وبدلاً من أن يتحرك للمواجهة، طلب من المرافق التابع له أن يُعمر «نارجيلة التنمباك» المنصوبة بدلاً عن المدفع، قائلاً: «عمر وطنبش»، وقد توجه في الأخير بأهله وبعض قومه إلى العربية السعودية، وتوفى هناك.
وفي المقابل، هناك قبائل مجاورة ساندت الزرانيق في ثورتهم تلك، ولعل عشيرة «الجمادي» ـ إحدى فروع قبيلة «القحرا» التهامية ـ هي الأشهر، وحين تحقق للقوات الغازية النصر، نكلت بتلك القبيلة شر تنكيل، وقتلوا كبيرها الشيخ إسماعيل البغوي شرَّ قتلة.
سادية متوحشة:
طبائع المُستبد لا ترحم من يَـتـعـدى على خصوصياتها، و«الردمي» المسكين لم يُـدرك ذلك إلا متأخراً؛ أعتقد أنه «تَجمَلْ» عند سيده، فإذا به يدخل بوابه الجحود والنكران من أوسع الأبـواب، والقائد الأعلى أبى إلا أن يدخل بوابة التاريخ وحيداً منفرداً، وتلقب بـ «أحمد يا جناه» الذي لا يُـقـهـر.
«جزاء سنمار» كان نصيب «الردمي» المُخدوع، الذي تجسدت مكافأة نهاية خدمته باتهامه بمعاقرة الخَمر، جيء به وجراحه لم تكـد تندمل، وطلي جسده بالزيت والقطران المَغلي، وربط فـوق إحدى المدافع، وقناني الخمر الفارغة تتدلى من فوق عُنقه، ولإكمال فصول المسرحية تم جلده مئة جلدة أمام جماهير الحديدة الغفيرة، ثم تُرك مَصلـوبـاً لأيـام تحت هجير أشعة الشمس الحارقـة.
سادية متوحشة أفرزتها عُقـدة انتقامية لطاغية مُستبد، ماضيه أسـود حتى في قتل أقرب الناس إليه، فكيف بغريب ساذج، أتى ينافسه لـذة القيادة، وزهـو الانتصـار، وبالمقابـل كانت إفرازات تلك العُقـدة مُقززة وأكثر نتـانـة ضد أولئك الذين جابهوا الطغيان، وأذلـوا كبريـائـه، وكان نصيب أبناء قبيلة الزرانيق الأحـرار من ذلك ما يفـوق حد الوصف، ولكي يضمن الطاغية عدم تَمَـردهم على «حقه الإلهي» مـرةً أخـرى، أدخل حوالي «800» من مقاتليهم الأشـداء مَذلة الأسر، وجحيم سُجون حجة المُظلمة، التي لا تُطـاق.
حجة سجنُ وسجـان وعـذاب مُقيـم، «شاري البَـرق من تهامة» ما زال يولد الحنين للحرية، والانعتاق، «وطائر أم غرب ذي وجهت سنا ام تهايم» مرسال شوق لا يُصغي للأنيين، والصراخ.
في لحظة صمت كئيبة، يتذكر هؤلاء الأبطال تفاصيل أكثر من «40» معركة حربية خاضوها ببسالة ضد القوات الغازية، وكيف جيء بهم إلى هذا المنفى المُوحش، في رحلة استمرت ثمانية أيام، تحت هجير الظهيرة، وبرد الشتاء القارس، الذي لم يرحم صدورهم العارية، فيما «المَغالق الخشبية» تكبل أيديهم، وتجعل سيـرهم ثقيلاً فوق أرض وعرة، وجبال خشنة لم يـألفوهـا، وفـوق رقابهم تتلوي حِبـالٌ غليظـة، ترفع من حشرجات صدورهم، وتكاد تقطع أنفاسهم.
ولا أروع من تشبيه الشاعر «الفضول» للمشهد الذي كرره الطاغية أحمد أكثر من مرة، في فصول تاريخه الأسود:
سيروا فما الأغلال في أعناقكم … إلا لمجدكم العظيم شعارا
سيروا ويكفيكم فخارا أنكم … في وجه طاغية الورى ثوارا
كانت الرحلة طـويـلـة وشـاقـة، وكان سجن «نافع» الذي بناه الأتراك ضاراً وأكثـر وحشة، وأعظم قسوة، لم تحنوا حجة على أبطال الزرانيق قَـط، كأوراق الخريف تَساقطـوا فيها الـواحد تلو الآخر، بعد أن تم تسميمهم، وقيل نجا من ذلك الموت المُحقق «13» شخصاً، وقيل شخص واحد اسمه سالم الزُّرُنقي، وقيل لم ينجوا أحد، وخلاصة المأساة: لم يجد هؤلاء الأبطال سوى أديم حجة المتماسك كي يدفنوا به أوجاعهم وإلى الأبد.
ذهب أبطال الزرانيق شامخين، وتركوا لعُشاق الحرية قصص بطولية نادرة، حق أن تُحفظ وتـدون بماء الذهب، فالتاريخ الحقيقي لا يكتبه المنتصرون بالسيف والطغيان، بل يدونه المنتصرين للكرامة والإنسان.