بلال الطيب :
بعد أكثر من نصف قرن من عمر «الإمامة الزيدية» في اليمن، حاولت «الدولة العباسية» أن تُمسك بِزمام الأمور، سيطر ولاتها «الزياديون» و«اليعفريون» على أغلب المناطق، ليندمجوا فيما بعد في إطار دولة واحدة عاصمتها زبيد، بقيادة حسين بن سلامة، لتتناثر البلاد بعد وفاة الأخير إلى ولايات وحصون مُتناحرة، قُسم «اليمن الأسفل» بين قبائل «حمير»، فيما ظل التنافس في «اليمن الأعلى» قائماً بين قبائل «همدان» وأئمة «الزيدية»، دفعت مدينة صنعاء ثمن ذلك الصراع كثيراً.
بعد وفاة «المنصور» القاسم العياني بأقل من شهر «5 شوال 393هـ / 6 أغسطس 1003م»، توجه «الداعي» يوسف إلى صنعاء، مُجدداً مِنها دعوته، ليغادرها بعد «15» يوماً مُكرهاً؛ بعد أن ثار عليه «الهمدانيون»، أمر عماله برفع أيديهم عن تلك الجهة، وتوجه إلى ريدة، ومنها إلى صعدة، وفي الأخيرة آثر الاستقرار.
ومن ذمار سبق لـ القاسم الزيدي أن أعلن نفسه إماماً، إلا أنَّ القدر لم يُمهله، توفي ـ وقيل قُتل ـ بعد خمسة أشهر من دعوته «26 محرم 394هـ»، ليخلفه ولده الأكبر محمد، دخل الأخير بعد ثلاث سنوات صنعاء، برفقة «الداعي» يوسف، وبدعم ومساندة من «ابن أبي حاشد»، أحد مشايخ همدان.
لم يكد ينتهِ العام «397هـ»، حتى جددت القبائل تمرداتها، أخرجوا «الزيدي» من صنعاء، وبقي وبقيت بغير سلطان، وعن ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «وثارت الفتنة على صنعاء، من خولان، وهمدان، وحمير، والأبناء، وبني شهاب، ففي كل شهر لها حاكم، وفي كل يوم عليها أمير، والغالب آل الضحاك».
وفي «عيان ـ حرف سفيان» تولى الحسين بن القاسم العياني ـ ذو الـ «17» ربيعاً ـ الإمامة بعد وفاة أبيه، تلقب بـ «المهدي»، وهو على صغر سنه، كان مُصنفاً غزيراً، تعمق أكثر في الفلسفة وعلم الكلام، حتى اتهمه مخالفوه بذهاب عقله، دخل في صراع مع «الداعي» يوسف، و«الزيدي» محمد، اتحدا الأخيران ضده، إلا أن تحالفهما باء بالفشل.
كان التنافس القبلي على صنعاء حينها على أوجه، ولغرض ترجيح كفة أحد الأطراف، توجه وفد من «همدان» و«بني شهاب» إلى ذمار، طلبوا من محمد الزيدي القيام، فدخل بهم صنعاء ـ للمرة الثانية ـ أواخر ذلك العام، غادرها إلى «بيت بوس»، واستخلف عليها ولده زيد، وما هي إلا أشهر معدودة حتى عادت لوضعها المعتاد.
كان لـ الحسين العياني سبق السبق في استحضار فكرة «المهدي المنتظر»، رغم أنها ليست من صميم مذهبهم، ادعى ذلك تصريحاً «صفر 401هـ»، وذلك أثناء وصوله إلى منطقة «قاعة» قريب صنعاء، وأجابته قبائل «همدان»، وسائر أهل المغرب، مُعلنين تخليهم عن مناصرة منافسه «الزيدي»، دخل بهم أواخر العام التالي صنعاء، صك العملة باسمه، وعاث في ذات المدينة نهباً وخراباً.
الأسوأ من ذلك، أنه عدَّ نفسه أفضل من الأنبياء، وأن كلامه أقوى من كلام الله، وقال: «ما يكون علم الأنبياء إلا كعشر العشر من علمي»، وأضاف: «أحضروا التوراة والإنجيل والفرقان، وكل علم أنزله الرحمن، فإنكم تجدون قولي أقوى من ذلك حججاً، وأبين بيانا، وأوضح نوراً، وأعظم برهاناً».
وكان يشتعل غضباً ضد كل من يشكك بـ «مهديته»، وخاطب في رسالة له الأمير «الهادوي» المحسن بن «المنتصر» محمد قائلاً: «أيها الفاسق المنافق الرجس النجس البغيض المبغض، بلغني أنك تهجوني، وتزعم أني لست المهدي»، وأضاف: «وما الفرق بيني وبين الأنبياء الأخيار، والأئمة الأطهار، إلا فرق بين الليل والنهار»، والطريف أنه كان إذا مرَّ جوار قبر أبيه، فرَّ مُسرعاً، وهو يقول: «هو خالف مذهب الهادي»!!.
وفيه قال قريبه فليته بن قاسم:
أنا شاهد بالله فاشهد يا فتى
بفضائل المهدي على فضل النبي
استنجد أهالي صنعاء بمحمد الزيدي، فأنجدهم من ذمار بجيش كبير جُله من «مذحج»، دارت بينه وبين «المهدي» حروب كثيرة، كان هو أبرز ضحاياها، قُتل بـ «قاع صنعاء»، قريباً من عصر «23 صفر 403هـ»، وأمر الإمام المنتصر أن تطأ الخيل بسنابكها جثته، وجثث باقي القتلى، حتى مزقتهم كل ممزق، وفي ذات الشهر توفي أيضاً «الداعي» يوسف في صعدة.
فَتحت مدينة صنعاء المنكوبة ـ للمرة الثانية ـ أبوابها لـ «المهدي المنتظر»، أباحها للقبائل المساندة له، وقال مُستهجناً: «إنما صُلْتُ بأوباش على أوباش»، لم يَستقر فيها كثيراً، غادرها بعد أن استخلف عليها جعفر بن القاسم، أخاه الأكبر منه بـ «13» عاماً.
في تلك الأثناء، أعلن زيد بن محمد الزيدي ـ ابن الإمام الصريع ـ من ذمار تمرده، توجه إلى «الهان ـ آنس» بجيش كبير، وكاد يستولي عليها، ليتخلى عنه أنصاره فور علمهم بمقدم «المهدي» نحوهم بجيش أكبر، فما كان من زيد إلا أن ولى ـ هو الآخر ـ هارباً، تاركاً أمواله وأثقاله غنيمة لـ «المهدي المنتظر».
كان بعض رجال القبائل قد امتنعوا عن مساندة «المهدي» أثناء خروجه إلى «الهان»، مارس في حقهم ـ بعد عودته ـ أشنع الجرائم، رغم أن غالبيتهم كانوا من أنصاره، صلب مشايخهم مُنكسين، وهدم دورهم، ونهب أموالهم، وألزمهم بدفع الجزية، في سابقة خطيرة لم يقم بها من سبقه من الأئمة، كما نكل ببني عمومته «الهادويين» في صعدة، وعاث في ذات المدينة نهباً وخراباً.
عادت الفوضى حينها لتشمل صنعاء وما جاورها من جديد، تمرد «بنو شهاب، وبنو صريم، ووداعة»، وكان منصور بن أبي الفتوح ـ أحد مشايخ «خولان» ـ قد سبقهم في ذلك، نهبوا دار الإمام، وطردوا أعوانه وشيعته، حاول «المهدي» استعادتها، فصد المُتمردون هجومه، وقتلوا عدداً كبيراً من أنصاره، عاد أدراجه خائباً، وأعاد «الهمدانيون» أحمد بن قيس بن الضحاك أميراً على صنعاء وعليهم.
وفي «محرم» من العام «404هـ» جمع «المهدي» جيشاً كبيراً، وجمع «ابن الضحاك» جيشاً أكبر، التقى الجمعان في «ذيبين»، دارت معركة كبرى، أنتصر فيها «الهمدانيون»، وهرب «المهدي» إلى الجوف، مُكثفاً من استعداداته لجولة جديدة وحاسمة، ثم توجه صوب ريدة، وبصحبته «100» من الفرسان الأشداء، لا غرض له سوى تحشيد الأنصار لمعركة فاصلة.
علم «الهمدانيون» بتحركاته، فخرجوا لقتاله، التقوه في «ذي عرار» بـ «قاع البون»، دارت معركة طويلة، استبسل فيها «المهدي» حتى النهاية، تمّكن «بنو حماد» من قتله «4 صفر 404هـ»، لم يصدق أصحابه خبر موته؛ لأنَّ الاعتقاد لحظتها بأنه «المهدي المنتظر» كان قد ترسخ في عُقولهم، وهم من عرفوا ـ فيما بعد ـ بـ «الحسينية»، وهي جماعة زيدية استمرت ـ كما أفاد «الخزرجي»ـ لثلاثة قرون، وقيل لـ «445» عاماً، والغريب في الأمر أنها لم تحارب كما حوربت «المطرَّفية».
أمام ذلك الفراغ، وبعد تردد كبير، أعلن جعفر بن القاسم العياني نفسه مُحتسباً، ولم يدّع الإمامة، لأنه صانع الاعتقاد بأنَّ أخاه ما يزال حياً، ليحلف مدرك بن إسماعيل أمامه سبعين يميناً أنه رأى «المهدي» بعد معركة «ذي عرار» سالماً، إلا من جروح طفيفة في جبهته، الأمر الذي حفزه أكثر على إظهار مُعتقده، ومُحاربة مُخالفيه.
وعن أحوال اليمن خلال تلك الفترة، قال صاحب «أنباء الزمن»: «فالتهائم وجميع أعمال زبيد إلى موالى بني زياد، وعدن، ولحج، وأبين، وحضرموت، والشحر إلى بني معن، وسمدان، والدملؤة، وذخر، والتعكر إلى بني الكرندي، وأما اليمن الأعلى فانقسم بين آل يعفر، وآل الضحاك، وبني أبي الفتوح، وأولاد الإمام الداعي يوسف بن يحيى، وأولاد الإمام القاسم بن علي العياني».
تبعاً لذلك، كانت مدينة صنعاء تعيش أسوأ أيامها، وعن ذلك قال ذات المؤرخ: «كانت صنعاء وأعمالها كالخرقة لها في كل سنة أو شهر سلطاناً غالباً عليها، حتى ضعف أهلها، وانتقلوا إلى كل ناحية، وتولى عليها الخراب»، وذكر أن عدد منازلها صارت «140»، بعد أن كانت «120,000» في عهد هارون الرشيد.
وفي أوج تلك الفوضى، جدد زيد بن محمد الزيدي تمرده «410هـ»، مسنوداً هذه المرة بـ «بني شهاب»، القبيلة التي خذلت اباه، وكانت نهايته على يد محمد بن أبي الفتوح، و«ابن أبي حاشد»، سجنوه في حصن «أشيح ـ آنس»، وقيل أنه مات مقتولاً، تماماً كأبيه وجده.
تجدد الخلاف بين القبائل حول من يحكم صنعاء «413هـ»، فما كان منهم إلا أن استدعوا أواخر ذلك العام جعفر العياني من محله بـ «عيان»، سار بهم إلى ذات المدينة، لم تدم مدة بقاءه فيها كثيراً، غادرها بعد شهر شمالاً، ومعه عدد من الأنصار، نهب مدينة صعدة، وخرَّب وأحرق دورها، وقتل عدداً من معارضيه، الغير مؤمنين بغيبة أخيه.
بطلب من أعيانها، عاد جعفر العياني إلى صنعاء مرة أخرى «صفر 415هـ / مايو 1024م»، لم يكد يستقر فيها، حتى ثار عليه «الهمدانيون»، طاردوه، وحاصروه بـ «بيت شعيب»، لينجده قوم من «خولان»، قتلوا «100» من مُحاصريه، وما هي إلا أيام معدودة تم الصلح بين القبائل، اختاروا «ابن أبي حاشد» حاكماً على صنعاء، إلا أنَّ أمرها وأمر «اليمن الأعلى» لم يستقر له، ولا لغيره من المشايخ والأئمة المتصارعين.