بلال الطيب :
سلسلة وقائع آخذة بعضها بعنان بعض، لا تنفك في مآلاتها، وإن تعددت عناوينها، وتباينت أشكالها، هذا هو التاريخ، وهو بمعناه الواسع نتاج لتراكم الفعل الحضاري على مرّ العصور، ليُقدم في الأخير خُلاصة الخبرة الإنسانية بين ثنايا السطور، مُستحقاً بذلك – كما أشار هانريك ماركس – أن يكون «علم العلوم»، والطامة الكُبرى أنَّ الأغلب يقرؤونه، ولا يتعظ منه إلا القليل.
يحمل التاريخ في داخله – كما أفاد قاسم عبده قاسم – نوعاً من الإنذار المُبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته، ومن لا يتعلم منه يتعثر كثيراً في حياته، وربما يعود في أحسن الأحوال من نقطة الصفر، ونظرتنا له – كمُتلقين – تُعبر دوماً عن توتراتنا في الحاضر، وتوقعاتنا من المستقبل، ويتوجب علينا وفق هذه المُعادلة – التي خلُص إليها «بروديل» – أن ننتقل من فكرة تقديسه بصفته قدر محتوم، إلى إعادة فهمه بصفته فاعلية حققها أسلافنا؛ لأننا إن فعلنا ذلك ضمنا مُستقبلاً خالياً من الإخفاقات.
ولكي يفهم الواحد منا الحادثة التاريخية ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها، ينبغي أن يكونَ لديه – كما أوضح سيد قطب – الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: «روحية، وفكرية، وحيوية»، ومقومات الحياة البشرية جميعها: «معنوية، ومادية»، وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة، ويستجيب لوقوعها في مداركه، ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرج وتمحيص ونقد.
ويذهب «قطب» أبعد من ذلك، فالتاريخ ـ حدَّ تعريفه ـ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة واحدة مُتماسكة الحلقات، مُتفاعلة الجزئيات، مُمتدة مع الزمن والبيئة، امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان، وهو بذلك لم يخرج عن سياق مدرسة عبدالرحمن بن خلدون التي نهل منها كثير من الباحثين، لترتكز الدراسات التاريخية بفعلها على تحليل عناصر التراكم الزمني ومكوناته، على اعتبار إن إعادة فهم التاريخ هي الخطوة الأولى على طريق بناء المُستقبل.
عرّف «ابن خلدون» التاريخ بأنَّه «فن غزير المواهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية»، وهو أول من تبنى – قبل ستة قرون – استقلاله كعلم، وأول من استخدم تعبير «فلسفة التاريخ» في كتاباته، وقصد بالأخيرة البُعد عن السرد، وتسجيل الأحداث دون ترابط بينها، وجعلها مَجالاً للاستقراء والتحليل والاستنتاج، وتمكن بذلك أن يَستخلص نظريته حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، ليأتي الفيلسوف الفرنسي فولتير – بعده بأربعة قرون – مُكملاً ما بدأ به، والأخير أول من صاغ «فلسفة التاريخ» بين الفلاسفة الأوربيين.
وقبل هذا وذاك، يبقى القرآن الكريم كلام الله المُعجز والخالد، حافل بسير الأولين؛ بل أنَّ أكثر من ثلثي آياته تذهب في ذات المسار، وهي دوماً مقرونة بالتدبر وأخذ العبرة والاعتبار، يغوص بدقة في طبائع الأمم، ونفسياتهم، يستعرض ظلمهم لأنفسهم، ولمجتمعاتهم، ويفصل جحودهم، وعنادهم، وكيف استحقوا العقاب، «أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم»، فالسير هنا؛ هو دراسة التاريخ والاطلاع على آثار تلك الأمم، أما النظر المشار إليه في الآية الكريمة فيُعنى بـه «فلسفة التاريخ»، وهو الذي يحلل الحادثة للوصول إلى علل الأحداث، كما سبق وأشرنا.
كثير من الدارسين أقروا بأن القرآن جاء من فعل «قَرَن»، وأنَّه سمي قرآناً لأنه قرن في كتاب واحد، وهو – كما أفاد محمد شحرور – كتاب علوم النبوّة بين إشاراته حول القوانين الكونية، وتسجيله لبعض من الأحداث الإنسانية، وعرض رؤيته حول المرويات الكبرى في تاريخ الإنسان المُشترك عموماً، وهي مؤشرات علينا دراستها لفهم التاريخ الإنساني، وحركته وسننه، وفق المنظور الفلسفي للتاريخ.
قال تعالى في مطلع «سورة يوسف»: «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ»، وقال في آخرها: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون».
ومن هذا المُنطلق تبقى قصص القرآن الكريم عناوين لافتة وعريضة تحمل للباحث الذي يُحسن قرأتها الكثير من التفاصيل، وهي – وهو الأهم – لم تكن فقط للعظة والعبرة؛ بل تشير بمجملها إلى قوانين حياتية مُلزمة، وأهداف واضحة تتكرر مع كل قصة، تارة تُعرفنا بأسباب السقوط والاندثار ـ وهو الأغلب ـ وتارة بأسباب النهوض والانتشار، والواجب علينا دراستها بتدبر، وأن نتلمس بها ومن خلالها طُرق التقدم، ونتلافى مهاوي السقوط.