توفيق السامعي:
لا تنهض الأمم إلا بقادة أقوياء، ومهما كانت شدة بعضهم وبعض المآخذ عليهم في قيادة الشعوب؛ فإنه لا تستقيم الشعوب والأمم إلا بتلك الشدة وبقيادات حازمة حاسمة تقوم اعوجاجها وانحرافاتها وتفلتها، وفي الدول التاريخية لنا الكثير من الأمثلة والعِبَر. أما القيادات الرخوة والمتساهلة فإنها تودي بالشعوب وتوردها المهالك والنكبات والقضاء عليها وتدميرها.
أثبتت التجارب أن الديكتاتوريات الإيجابية ذات المشاريع البناءة أنها بنت الدول، وحافظت على الشعوب والحكومات من التفكك والتشرذم والصراعات المختلفة بعكس التي ادعت المثاليات الديموقراطية التي لم تطبقها وذهبت إلى القشور ومن ثم فتت عضد الدولة وانهارت الشعوب وتخلفت البلدان.
من يظن أن التدين والتعامل السياسي مع الناس هو الهمهمة والرهبنة والاعتكاف وحفظ النصوص والانزواء عن الناس في الزوايا والتراخي عليهم، وترك الحبل على الغارب للناس يسرحون ويمرحون على هواهم فقد جهل الدين والسياسة والتعامل مع الآخرين.
كذلك هناك من القيادات الضعيفة فكراً القوية غشوماً وجهلاً تعتبر أنها إذا قربت قيادات قوية منها فإنها ستمثل خطراً عليها وتخطف الأضواء عنها، فلا تأتي إلا بمن كان ضعيفاً يسمع ويطيع تابعاً خانعاً دون أن يكون له رأي صارم في قضايا الناس والدولة أو اعتراضات على المثالب والسلبيات، وهذه الرؤية هي التي أودت بكثير من الشعوب والدول والجماعات والأحزاب، ومنها بلادنا على سبيل المثال، لكي يظل القائد هو كل شيء في الدولة، يستوي بذلك قيادة الدولة وقيادة المؤسسات وقيادة الأحزاب، التي تغار من النجاح والمنافسة، ولذلك وصل حالنا إلى هذا الضعف والخذلان والضياع، وعند انهيار القائد ينهار معه كل شيء.
يعملنا الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم كيف تكون القيادة، وكيف تكون مؤهلاتها القيادية وصفاتها الريادية، والأجدر الأخذ بها في حياتنا لمن أراد النجاح في فرض النظام وبناء الدولة وقيادة وسياسة الشعوب.
لا بد للقائد أن يكون مؤهلاً بأهم ثلاث صفات القيادة؛ وهي: القوة، والعلم، والأمانة. قد يقول قائل وكذلك العدالة كشرط رابع؛ لكن العدالة تندرج تحت العلم والأمانة.
فالقوة هنا شاملة القوة الحسية والمعنوية؛ قوة الرأي، وقوة اتخاذ القرار، وقوة إنفاذه وتطبيقه، وقوة الوسيلة وقوة المؤهل. أما لو استعان بمعاونين أقوياء يتصفون بنفس صفاته فهنا يكون الكمال والريادة في الحكم والقيادة والتحليق بالأوطان إلى أعالي المجد والسؤدد.
وقد ضرب الله أمثلة عديدة على ذلك، ومن هذا النوع مثلاً نجد سليمان –عليه السلام- فقد كان أهم مؤهلاته: القوة والحكمة والقول الفصل (سداد الرأي)، {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}ص20، هذا قبل أن يسأل اللهَ ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده واستجابة الله له. وقد طبق ذلك عملياً من خلال بعض الأمثلة، ومنها أنه لما أقام عرضاً ومهرجاناً لجياده (الخيول)، ولأنها ألهته عن صلاته أو بعض شؤونه حتى غربت الشمس، لم يكن منه إلا أن أجهز عليها بالسيف حتى أتى على آخرها دون أن يرف له جفن أو يتردد في اتخاذ القرار، كما صور الحدث ذلك القرآن الكريم {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}ص33.
وهناك مثل آخر عن أسلوب حكمه، فرغم قوته وشدته وقوة بأسه وملكه إلا أنه استعان بوزراء ومعاونين أصحاب كفاءات عالية ونادرة، ولهم مؤهلات علمية مرموقة، ولم يخش منهم على ملكه، كما يفعل الكثير من الرؤساء، أو الوزراء، أو المدراء، أو القادة العسكريين، أو قيادات المؤسسات.
ومع أنه في قمة ملكه بعد أن وهبه الله ملكاً لم يهبه لأحد من قبله ولا من بعده يستعين بمعاونيه المقربين (الملأ) وهم عِليةُ القوم المستشارين لديه: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}النمل38
وهنا تأتي المؤهلات العلمية والسياسية والقيادية؛ وهي القوة والأمانة والعلم والمعرفة:
{قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ }النمل39.. هنا قال: قوي أمين، وما أجمل أن تجتمع هاتان الصفتان في المسؤول، أما لو اجتمعت (قوي أمين، مع حفيظ عليم) فذلك هو الكمال في الملك والحكم.. وهي نفس مؤهلات موسى؛ القوة والأمانة {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}القصص26
لقد كانت مؤهلات سليمان: حكماً وعلماً، وكانت مؤهلات يوسف الحفظ والعلم، وكانت مؤهلات موسى القوة والأمانة.
{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}النمل40
النتيجة كانت فوق المتوقع، وفوق الخيال، جاء به في غمضة عين؛ ثوانٍ معدودة أو أجزاء من الثانية {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي}النمل 40، وإذا كان قد قال مع موسى (قوي أمين) فقد قال مع يوسف (حفيظ عليم)، وقال مع سليمان (حكيم وفصل الخطاب)..
أما يوسف –عليه السلام- سارع إلى الملك لعرض مؤهلاته العلمية والاقتصادية لكي ينقذ البلاد من كارثة محققة لو أدارها غيره، أو تركها كما هي، لفني الناس من الجوع والحرب على الأقوات،{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}يوسف55؛ ولأنه “حفيظ عليم” (مؤهلات إدارة الأزمات) فقد أنقذ أهل مصر وشعوباً وأمماً مجاورة من مجاعات محققة، مدتها سبع سنوات متوالية وليست عاماً أو عامين، واستطاع إدارة الأزمة الاقتصادية بكل كفاءة واقتدار، وكان شديد التطبيق لخطته ومنهجه حتى مع الملك نفسه وحاشيته، ولم يجامل ملكاً ولا قريباً، وهنا تتجلى الأمانة كنتيجة من نتائج (حفيظ عليم)، ولما مكنه الملك من الوزارة أيضاً تم وصفه بالتمكين والأمانة {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ }يوسف45، والتمكين هنا لفظ شامل لكل أسباب الحكم والصلاحيات المختلفة.
أما قوة الحكم فلا بد أن تتصف بالقوة والعدالة معاً، فلا يستقيم حكم ولا مُلْك دون قوة وعدالة مطلقاً، وإن استبد ووجد فإنه ينهار عند أول منعطف وأزمة سياسية أو عسكرية تحل به؛ لأنه إذا زرع الإرهاب في الناس فإن الناس يصبرون حتى إذا سنحت أدنى الفرص كانوا أول من يخذله من حاشيته وأتباعه وجنوده، كما حصل من انهيار الجيوش الفارسية أمام جيش المسلمين الأقل عدداً والأقل عدة وتسليحاً.
لذلك خاطب الله نبيه داوود بأن يكون ملكاً عادلاً في حكمه {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}ص26
والعدالة أساس الملك، كما قيل، وتروى مقولة عن ابن تيمية قال: “الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة” .
وفي الحديث عند مسلم قال: سمع عمرو بن العاص المستوردَ بن شدادَ يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تقوم الساعة والروم أكثر الناس. قال له عمرو: أبصر ما تقول؟ فقال المستورد: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمرو: لئن قلت ذلك؛ إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك.
وقد خير الله ذا القرنين التعامل مع الناس إما بالعذاب أو بالعفو، فاختار ذو القرنين العدالة وفصل في الأمر.. {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}الكهف86، {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}الكهف87، {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }الكهف88