بلال الطيب :
لم يكد يتعافى اليمنيون من صراعاتهم المناطقية، والمذهبية، والسلالية، حتى أطلت عليهم العصبية الحزبية بوجهها القبيح، وهكذا صار الجنوب يسارياً، والشمال يمينياً، وصار لليسار يمين، ويسار انتهازي، ولليمين يسار، ويمين وسطي، استغل «اللاعب الخارجي» ذلك، ومن خلاله تسلل، وصبَّ نفطه على النار.
قدَّم المُتحزبون المُتعصبون مَصلحة الحزب على مصلحة الوطن، وقدم المشايخ المُتسلطون مصلحة القبيلة على مصلحة الوطن، وبين هذا الفريق وذاك تاه الوطن، وغُيبت «الذاتية اليمنية»، واختزل مفهوم الوطن والوطنية والوحدة بما يتفق وتوجه المُتصارعين، وظلت «القبيلة» و«الحزب» مُتصدرتان للمشهد، مُتحكمتان بصناع القرار، والويل كل الويل لمن يحاول أن يتحرر من هيمنتهما.
حاول الرئيس عبدالرحمن الإرياني التحرر من الهيمنة القبلية، أو بمعنى أصح تهذيبها، فناله من أذاها الكثير، اتهمه المشايخ بتقريبه عناصر يسارية، وتمكينها من وظائف حكومية على حسابهم، مُتناسين أنَّه كان منذ البداية ضد الحزبية، وقال مقولته بأنها «تبدأ بالتأثر، وتنتهي بالعمالة»، ولم يكن تقريبه المحدود لتلك العناصر إلا لاعتبارات مهنية صرفة من ناحية، ولخلق توازن داخل كيان الدولة الهش من ناحية أخرى.
وفي المُحصلة النهائية لم ينل الرئيس الإرياني رضا هذا الفريق أو ذاك، ارتفعت وتيرة مؤذاة المشايخ القبليون له؛ قدَّم بسببهم استقالته مرة أولى وثانية وثالثة، ليغادر بعد ذلك السلطة بانقلاب أبيض ظهيرة يوم «13 يونيو 1974م»، وانتهى به الأمر منفياً في «لاذقية سوريا»، بعد أن حلَّ إبراهيم الحمدي محله.
أصدر الرئيس الجديد – أحد مُعارضي «اتفاقية القاهرة» – أمراً عاجلاً بوقف الحملات الإعلامية ضد الجنوب، بادله الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي ذات الموقف؛ فأسسا لعلاقة ودية أخذت الطابع الشخصي أكثر من الرسمي، التقيا في مؤتمر القمة العربية الرابع في الرباط «أكتوبر 1974م»، واتفقا على سحب القوات المُتمركزة في الحدود الشطرية، وعلى إيقاف الدعم الذي يقدمه النظامين للمقصيين الجنوبين في الشمال، والمقصيين الشمالين في الجنوب؛ لتتوقف بفعل ذلك المواجهات المُسلحة في «المناطق الوسطى» لبعض الوقت.
كان خطاب الرئيسان في تلك القمة حول المصاعب الاقتصادية التي تواجه اليمن وحاجته لدعم الأشقاء مُوحداً، اعترض الملك فيصل حينها، فرد عليه «سالمين» بمنطق وهدوء نال إعجاب الحاضرين، فيما طلب صدام حسين من الملك السعودي سحب اعتراضه، وتحفز في المقابل أمير الكويت الشيخ صباح السالم لتقديم الدعم اللازم، وخاطب رئيسا الشطرين قائلاً: «يا أولادي الكويت ستقدم لكل واحد منكم عشرة مليون دولار؛ لكن على شرط ألاَّ تشتروا بها سلاحاً وتتقاتلوا».
وعن طبيعة تلك العلاقة الودية، تحدث «سالمين» قائلاً: «ليست العلاقة الشخصية إلا عاملاً مساعداً على كل ما حدث من إيجابيات في جو الاستقرار والود بيننا كأخوة، ولكن الاقتناع الوطني والشعور بالمسؤولية الوطنية لدى إبراهيم كانت هي الأخرى العامل المساعد على تحقيق ما كان في مصلحة الوطن اليمني عموماً».
رد «الحمدي» في موضع آخر قائلاً: «نحن والجنوب شعب واحد اسمه اليمن، مهما كانت الجراح أحياناً فالمسؤولية تحتم علينا التغلب عليها من دافع حرصنا على مصالح الشعب اليماني الواحد في شطري اليمن، وأملنا في تحقيق هذه الوحدة كبير، والموضوع هو العامل الزمني»
كان تحقيق الوحدة في عهد الرئيسين «سالمين» و«الحمدي» أمراً مُمكنا، لكونهما يتمتعان بنفس الرؤية، والغاية، والهدف، وقبل هذا وذاك صدق توجهما، ولا أدل من لقائهما الودي الثاني بمؤتمر القمة العربي الثامن في القاهرة «أكتوبر 1976م»، حيث صوت «سالمين» باسم الشطرين على تجديد فترة رئاسة محمود رياض كأمين عام للجامعة العربية.
أعلن الرئيسان في ذات المؤتمر عن إرسال قوات مُشتركة إلى لبنان، ضمن قوات الردع العربية، كما تم الاتفاق على تمثيل اليمن بوفد مُوحد في المحافل والمؤتمرات الدولية، وعلى أن تتولى سفارة أحد الشطرين ذات المهام في أي عاصمة ليس لصنعاء أو عدن تمثيل دبلوماسي فيها.
أكثر الأدبيات التي وثقت لتلك الفترة أشارت إلى أنَّ الرئيسين كانا يسعيان إلى قيام وحدة «فيدرالية» بين الشطرين؛ كونها تحظى بالتمهيد الجيد، والإعداد المُسبق، وكرديف لـ «الجبهة القومية» – التنظيم السياسي الموحد قبل تأسيس «الحزب الاشتراكي» – في الجنوب، سعى «الحمدي» لتأسيس «المؤتمر الشعبي العام» كتنظيم جماهيري مماثل يلم فيه فرقاء التيارات السياسية الفاعلة في الشمال، ويحد فيه من نفوذ المشايخ، وبالفعل تم الاتفاق على ذلك، إلا أنَّ عراقيل كثيرة اعترضت ذلك المسار، كانت الهيمنة القبلية أبرزها.
التقى الرئيسان بعد ذلك في مطار قعطبة «16 فبراير 1977م»، لم يتم الحديث حينها عن إحياء «اتفاقية القاهرة»؛ بل تم الاتفاق على تشكيل مجلس يتكون من رئيسي الشطرين، ومسئولي «الدفاع، والاقتصاد، والتجارة، والتخطيط، والخارجية»، وأن يجتمع المجلس مرة كل ستة أشهر بالتناوب بين صنعاء وعدن لبحث ومُتابعة الأعمال المشتركة، واللجان الفنية.
كما تم الاتفاق على توحيد بعض المناهج الدراسية، وعن ذلك قال «الحمدي» في خطاب مُتلفز: «وقد خطونا فيما يتعلق بالمنهج الدراسي خطوة لها أهمية كبيرة، فقد تشكلت لجنة مُشتركة فألفت كتاب التاريخ اليمني للمدارس اليمنية في الشطرين، وها هو تحت الطبع، وسيدرس في هذا العام الدراسي».
زار الرئيس سالمين صنعاء «13 أغسطس 1977م»، وأدلى بتصريح صحفي جاء فيه: «وإن الشطر الجنوبي في انتظار اليوم الذي سيأتي فيه قادة الشطر الشمالي، وهو قريب، ليرو المشاعر الفياضة، والشوق الكبير لوحدة الشعب والأرض»، ليتعرض مطار صنعاء بالتزامن مع مغادرته لقصفٍ بقذائف «الكاتيوشا»، وقد اعتبر تقرير السفارة الأمريكية – الناقل لتلك الحادثة – ذلك بـ «أنَّه تعبير من المشايخ الموالين للسعودية عن عدم رضاهم من وجود الرئيس الاشتراكي في عاصمة الشمال».
لقيت خطوات «الحمدي» و«سالمين» الوحدوية مُعارضة من قبل بعض الأطراف النافذة في كلا النظامين، وفي الشمال كان عبدالله الحمدي، وعبدالله عبدالعالم، وعلي قناف زهرة، وعلي الشيبة إلى جانب «الحمدي»، فيما كان أحمد الغشمي، وعلي عبدالله صالح، ومحمود قطينة، ومحسن سريع في الجهة المقابلة، اعتمد الفريق الأخير على شعبية الرئيس، وأغفل ولاء غالبية القوات المسلحة للفريق الأول؛ فخسر المعركة.
سبق لـ «الحمدي» أن أزاح القوى القبلية والعسكرية التي أزاحت «الإرياني»، ومهدت لتوليه الحكم، وأتى بهؤلاء النافذين؛ وجُلهم من «سنحان» ومن «همدان»، فكانت نهايته على أيديهم «11 أكتوبر 1977م»، وكان لـ «الشقيقة الكبرى» الأثر الأكبر في انقلاب هؤلاء عليه، أشترتهم بالمال، ووعدتهم بالسلطة؛ بعد أن تأكد لها أنه ذاهب في اليوم التالي إلى عدن ليحتفي مع صديقه الرئيس سالمين بالذكرى «14» لثورة «14أكتوبر»، ويعلنان الوحدة من هناك.
«الحمدي» و«سالمين» رئيسان أحبهما الشعب، حاولا التخلص من هيمنة «القبيلة» و«الايدلوجيا» فتُخلص منهما، وبعد ثمانية أشهر و«15» يوماً من مقتل الأول أنهى «الرفاق» حياة الثاني «26 يونيو 1978م»؛ بذريعة القضاء على «طفولته اليسارية»، وقبل ذلك بيومين قتل الرئيس أحمد الغشمي بحقيبة مُفخخة قادمة من الجنوب، تتشابه النهايات، بيد أنَّ الأخير ليس محبوباً البتة، وكما يحظى قبر «الحمدي» بآلاف الزوار لقراءة الفاتحة عليه، لا يزال قبر «سالمين» مجهولاً حتى اللحظة.