توفيق السامعي:
ملِكة أم مُكرِّبة؟
من المعلوم أن كبراء ومقدمي دولة سبأ ينقسمون، كما عند المؤرخين، إلى قسمين وعهدين مختلفين؛ القسم الأول: وهم المكارِبة، وهي المرحلة الأولى لمرحلة ما قبل الملوك، وتعني المقدم لدى الآلهة أو المقرب للآلهة، كما فسرها علماء النقوش والآثار، وهو زعيم ديني سياسي عشائري ثيوقراطي أو كهنوتي لدى الدولة( ).
و”لقب مكرب المشتق من الفعل (ك ر ب) بمعنى: جمع، حشد، أي: المجَمِّع. وكان اللفظ يطلق على من يتولى رئاسة حلف قبلي يضم عدة شعوب (قبائل). وقد عد المكربون أنفسهم نواباً للحاكم الفعلي وهو إله القمر (المقه) ويمثلونه على الأرض وسطاء بين الإله والشعب”( ).
وفترة المكاربة سبقت مرحلة الملوك، وبهذه الصفة وردت في النقوش الأولى المكتشفة لدى مملكة سبأ، وتبدأ من أول نقش من النقوش المكتشفة حتى الآن دون “سمهعلي” وحتى عهد كرب إل وتار بن ذمار علي الذي تحول معه هذا المنصب من مكرب إلى ملك في القرن السابع قبل الميلاد “وهو أول من تلقب بلقب ملك”( ).
فكثير من المؤرخين يذكرون أن كرب إل وتار كان أول ملك بعد فترة المكاربة، كما يقول جواد علي: “ويعد (كرب إيل وتر) خاتمة المكربين وفاتحة الملوك في سبأ. افتتح حكمه وهو (مكرب) على سبأ، ثم بدا له فغير رأيه في اللقب، فطرحه ولقب نفسه (ملك سبأ). وسار من حكم بعده على سنته هذه، فلقب نفسه (ملك سبأ)”( ).
ثمة تفسير عند جواد علي لهذا الأمر، فهو يذكر أن كرب إيل وتار بدأ حكمه مكرباً واختتمه ملكاً. “لقد حصلنا على الكتابات القديمة الأولى وهو (مكرب)، فعلمنا أنه تولى الحكم مكرباً، ثم وجدنا له لقباً آخر هو (ملك سبأ)، فعرفنا أنه لقب جديد حل محل اللقب القديم، ثم وجدنا من جاء بعده يحمل هذا اللقب الجديد، فصار (كرب إيل وتر) آخر مكرب وأول ملك في سبأ في آن واحد”( ). وقد اتخذ هذا اللقب الجديد (الملك) بعد القضاء على دولة معين عام 610 ق.م( ).
لكن نقش النصر في صرواح يذكر صفة كرب إل وتار بأنه مكرب وليس ملكاً، ففي السطر الأول من الفقرة الأولى وصف نفسه بأنه “مكرب سبأ” ولم يورد صفة الملك، ويبدو أن لقب مكرب انتهى مع يثع أمر الثاني الذي جاء بعد كرب إيل وتار، كما يظهر اسمه من نقش النصر أنه كان رديفاً وقائداً من قادات كرب إيل وتار ويبدو أنه تولى الملك بعده، وليس يثع أمر الأول الذي هو المكرب الثاني بعد أبيه سمهعلي ينوف، الذي ذهب إليه بعض المؤرخين.
وهذا التقسيم يبدأ عند ديتلف نيلسن من عند المكرب الأول سمهعلي ينوف، وهو “اسم تبدأ به سبعة حتى تسعة أجيال لمكربين. أما الأجيال الثابتة فقد بلغ عددها ثمانية أجيال تقريباً، وهي أجيال رجال الأديان القدماء الذين كان يطلق عليهم اسم مكرب لسبأ، ويعتقد أنهم شغلوا من تاريخ بلاد العرب الجنوبية ما يقرب من قرنين، ثم جاء بعدهم عصر الملوك المتقدمين”( ).
ومن خلال التواريخ التي وضعها المؤرخون وعلماء الآثار نجد أنهم وضعوا تاريخ 850 ق.م لأول مكرب مذكور وهو سمهعلي، وأول ملك هو كرب إيل وتار كان 650 ق.م، أي: 200 سنة، ومن خلال النقوش جمعوا بين هذين التاريخين حوالي 17 مكرباً فهل هؤلاء الـ17 مكرباً يملأون المسافة الزمنية التاريخية 200 عام أم إن الفترة الزمنية تحتاج لأكثر من هذا العدد وبالتالي وجود فجوة وحلقة مفقودة من بقية المكاربة أو الملوك؟!
يبدو أن المُلك ونظام الدولة في اليمن ورث النظام، أو قلد نظام الحكم والمُلك عند بني إسرائيل، الذي يكون فيه النظام الديني هو الأعلى سلطة حتى على الملك نفسه، ثم يأتي الملك بالدرجة الثانية، والنبي هو في الدرجة الأولى وهو الذي يختار الملك ويعينه لقيادة هذا النظام، وهذا الأمر عكسه القرآن الكريم في قصة طالوت وما بعده، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾( ).
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾( ).
إذاً فالنبي هو من اختار الملك والحاكم، وأظن أن طبقات المُلك والحكم السبئي بين مكرب وملك جاء من هذا الباب. أو العكس هو الصحيح؛ أن نظام الدولة لدى بني إسرائيل أخذ هذه التقسيمات من الحكم اليمني الأول بأن الحاكم الديني (المكرب) هو أعلى سلطة من الملك ويوجهه، ويقابل المكرب في نظام الحكم الإسرائيلي (النبي)؛ فقد تأسس الحكم السبئي الأول قبل الحكم الإسرائيلي نفسه.
اعتمد النظام الإيراني هذا التقسيم حديثاً، فعندهم الإمام هو السلطة الكهنوتية والدينية العليا، والرئيس هو مسير النظام السياسي للبلاد بإشراف الإمام، يختاره ويعيّنه الإمام.
لكن السؤال: هل كانت ملكة سبأ هي التي نقلت هذا النظام من مملكة بني إسرائيل إلى اليمن، في المرحلة الثانية من الحكم السبئي، وأن مرحلة المكاربة بدأت من عهدها أم من قبلها؟!
فالنبي سليمان، ومن قبله أبوه داوود، جمعا في الحكم بين النبوة والمُلك، فصارا هما أعلى سلطة في الدولة الحاكمة دينياً ودولة، أما قبلهما فقد كان المَلِك تابعاً للسلطة الدينية (النبوة) الذي بدأ من عهد النبي موسى نفسه؛ حيث إن الله بعثه نبياً فاختار هو أخاه هارون وزيراً بغرض تسيير المُلك الذي سيترتب بعد النبوة، أو يخلفه من بعده في شؤون الملك، وهو ما وضحته بعض الآيات: ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ ( ).
…..يتبع