توفيق السامعي:
من كعبة “القليس” إلى المزار الشيعي في صنعاء القديمة، محاولات لفرض أجندة معينة وإضفاء القداسة على المدينة التي بنيت في القرن الأول للميلاد كعاصمة صيفية للدولة الحميرية، كأقدم مدينة في الجزيرة العربية ما زالت قائمة حتى اليوم..
مغالطات تاريخية، وتضليل إعلامي، وجهل بحقائق التاريخ وأحداثه. يحاول الإرهابيون الحوثيون عبثاً تسويقها للناس، والتضليل عليهم من خلال القيام بهدم تراث اليمن الأبرز في صنعاء القديمة لبناء مزار شيعي، زاعمين أن علي بن أبي طالب زار صنعاء، وكان أحد ولاتها من قبل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي فرية كبرى ضد كل المصادر التاريخية والمعلومات الموثقة.
تمضي المليشيا الحوثية قدماً في محاولة تشييع اليمن، وتقليد شيعة العراق وإيران في خلق “عتبات مقدسة” في صنعاء لإيجاد حج بديل، وجني ثروات مالية باسم تلك العتبات التي سطت فيها على حقائق التاريخ وتزويره باختلاقهم قصة زيارة علي لصنعاء أو أنه كان والياً عليها من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم.
فما هي الحقائق التاريخية في هذا الأمر؟ وهل زار علي فعلاً صنعاء؟ أم إنها مجرد بحث عن الأوهام والمضي في تشييع البلاد؟
في هذه الدراسة القصيرة سنورد كل التفاصيل المتعلقة بزيارة علي بن أبي طالب لليمن بالأدلة، وتكليفه من قبل الرسول، وأي المناطق التي وصل إليها وعرفها، وما كانت مهام عمله وتكليفه على وجه الدقة.
إلى التفاصيل..
ولاة النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن
تكاد تجمع كل الروايات التاريخية وكذا ما جاء في السير والأحاديث على أن أول واليين بعثهما النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن هما معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنهما- وأوصاهما بالاتفاق والتطاوع وعدم الاختلاف، كما جاء في الحديث عن سعيد بن أبي بردة قال: سمعت أبي قال: “بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا فقال له أبو موسى: إنه يصنع بأرضنا البتع؟ فقال: كل مسكر حرام» وقال النضر، وأبو داود، ويزيد بن هارون، ووكيع، عن شعبة، عن سعيد، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم.(الحديث رقم 7172- في البخاري).
وحدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكل واحد منهما مكانه ووجهته وعمله؛ فمعاذ على مخلاف الجند وعلى نجود اليمن من الجبال والأعالي، وأبو موسى على التهايم من اليمن، وقد وردت كثير من الأحاديث في ولايتهما ووصيتهما من قبل الرسول.
يقول المؤرخون كالجندي في كتابه “السلوك”، وتابعه في ذلك ابن الديبع في “قرة العيون”، وكذلك محمد علي الأكوع في شرح حاشية الكتابين، أن معاذ بن جبل “سار حتى قدم صنعاء ثم توجه إلى الجند، وأوصل كتابه – عليه الصلاة والسلام- إلى بني الأسود وكانوا قد أسلموا، ثم إنهم اجتمعوا في أول جمعة من رجب ووعظهم معاذ. ومن ذلك اليوم ألف الناس إتيان مسجد الجند في أول جمعة من رجب يأتونه ويصلون فيه الصلاة” .
وجاء في صحيح البخاري، حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبدالملك عن أبي بردة [حفيد أبي موسى الأشعري] قالك: “بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف. قال: واليمن مخلافان، ثم قال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا. فانطلق كل واحد منهما إلى عمله. وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريباً من صاحبه، أحدث به عهداً فسلم عليه. فسار معاذ في أرضه قريباً من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: ياعبدالله بن قيس.. أيّم هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه. قال: لا أنزل حتى يقتل. قال: إنما جيء به لذلك؛ فانزل. قال: ما أنزل حتى يقتل. فأمر به فقتل، ثم نزل فقال: ياعبدالله..كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوَّقه تفوُّقاً. قال: فكيف تقرأ أنت يامعاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي” .
ومما جاء عند المؤرخين ومنهم الجندي وابن الديبع أن النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان من ملوك وأقيال اليمن الذين وصلوا وفوداً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة عند رجوعه من تبوك. والنعمان، كما عند الأكوع، هو: النعمان لعله ذو رعين الأصغر.
ونستشف من خلال هذا الخبر أنه بعد إسلام مخلاف الجند بما فيه من معافر ورُعَين وغيرهم، بعد مكوث معاذ عاماً كاملاً يعلم الناس الإسلام والفرائض والفقه، بدأت وفود المنطقة تفد على النبي -صلى الله عليه وسلم.
ولكن هنا لا بد من التوضيح والتعقيب على خبر المؤرخين كيف أنهم أوردوا رعين والمعافر وهمدان في جملة واحدة وفي سياق واحد، خاصة وأن حامل رسالتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو مالك بن مرة الرهاوي، وبنو الرهاوي معروفون أنهم من سكان الجند وبلاد السكاسك في ماوية، ومنهم في إب، ومنهم في سامع وبني يوسف اليوم من المعافر، وينسب إليهم جبل سامع الأكبر، ويسمى (جبل الرهيوة)!
كما هو معلوم أن همدان مستقلة في الرسل والوفد والبعث، والمكان في أقصى شمال الشمال، فما الذي جمعهم هنا بمعافر ورعين، وقصة إسلامهم معروفة، وأمراؤهم معروفون ووفودهم معروفة ذهبوا بكل ذلك باستقلالية تامة إلى النبي!!
فهل كانت هناك همدان أخرى في منطقة الجند غير همدان المعروفة في أقصى الشمال، جعلها تدخل ضمن إقليم الجند ومعافر ورعين وسط وجنوب اليمن؟!
ومما يدل على أن المناطق متقاربات جغرافياً وللثلاثة الملوك المذكورين وتكرار معافر فيها، فإن جغرافيتها لا تتعدى حدود ذمار شمالاً وإلى نهاية المعافر جنوباً غربياً، وتدخل معهم لحج وعدن وأبين والذي سمي فيما بعد بمخلاف الجند ووالي الجميع معاذ بن جبل – رضي الله عنه.
ولنتأمل رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك المعافر الثلاثة الحارث ونعيم ابني عبد كلال والنعمان:
“بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله النبي، إلى الحارث بن عبد كلال، وإلى نُعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان: قيل ذي رعين ومعافر وهمدان.
أما بعد ذلكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم من المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم الرسول وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر، وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. وإنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيراً فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه، وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين، لهم ما لهم وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني، فإنه من المؤمنين له مالهم عليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية، على كل حال ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار وافٍ من قيمة المعافر أو عوضه ثياباً، فمن أدى ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد: فإن رسول الله محمداً النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً: معاذ بن جبل، وعبدالله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة وأصحابهم. وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا.
أما بعد فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوي، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإن رسول الله هو ولي غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحمل لمحمد ولا لأهل بيته، إنما هي زكاة يزكي بها على فقراء المسلمين وابن السبيل. وإن مالكاً قد بلَّغ الخبر، وحفظ الغيب، وآمركم به خيراً، وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم، وآمرك بهم خيراً، فإنهم منظور إليهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
ويالها من رسالة عظيمة حوت داخلها كل حكم، وأزالت كل شبهة، وأجابت عن كل تساؤل. ونستفيد منها في موضوعنا التالي:
– أن رسل رسول الله وعماله على البلاد التي أرسلوا إليها إنما أرسلوا بعد إسلام أهل تلك البلاد، ولم يدعوهم إلى الإسلام، ولم يشهروا ضدهم سيفاً، وهذه تنفي ماقيل عن إسلام همدان على يد علي كلها في يوم واحد، وتدحض ماقيل من أحاديث مفتراة بحقه وحقهم.
– أن معاذ بن جبل أرسل في العام التاسع وجاء قوماً قد أسلموا وهم بانتظاره.
– أن معاذاً مرجعية كل الولاة المذكورين في الرسالة.
– سلسلة ولاة معروفة أسماؤهم دون تأويل.
– أن الخمس والصدقة ليست للنبي ولا لأهله بل لفقراء المسلمين وابن السبيل وما عليه هو إلا تصريف تلك الصدقات وتقسيمها بينهم.
– أن سلسلة الولاة المذكورين يقتصرون على المناطق الوسطى والجنوبية من اليمن، وربما دخلت معهم صنعاء.
– لا يوجد أي ذكر لعلي في هذه الرسالة، وهو ما يؤكد إرساله لجمع الصدقات في السنة التالية العاشرة للهجرة في نجران وهمدان الشمالية.
– صفيه المذكور في اللفظ السابق في خمس الله والنبي تعني خلاصة أموالهم وليس ما يتأوله الشيعة أن الصفي هو علي.
– ومما يدل على أن صحن الملك وعاصمته يومها هي المعافر أن خص الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصدقة بالعملة المعافرية أو عوض ذلك ثياباً وهي معافرية أيضاً، وقد كان رداؤه -صلى الله عليه وسلم- معافرياً، ولما توفي كفن بثياب معافرية.
– من خلال مراجعتنا لكل مصادر التاريخ والسير والحديث التي ذكرت هذه الرسالة واسمي الحارث بن عد كلال وأخيه نعيم بن عبد كلال لم أقف على أي تعريف لهما أي البلاد يحكمانها، وما وضح ذلك إلا إشارات في هذه الرسالة وإلحاق الإسم الثالث النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان الذي يتضح من خلاله أن جغرافية المكان للثلاثة الأعلام هي ما بين ذمار إلى أبين، بدليل إرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بقية المناطق عمالاً ورسلاً ورسالات تخص أسماء أخرى على أنها زعامات تلك البلاد كهمدان الشمالية (صعدة والجوف ونجران وعمران) وتخصيص خالد لها، وتخصيص فروة لمراد ومذحج (الجوف ومارب)، وبعد ذلك تخصيص أسماء أخرى لصنعاء مثل وبر بن يحنس، أو يعلي بن أمية، أو شهر بن باذام، أو فيروز الديلمي.
…… يتبع
٫٫ سلسلة حلقات سنسردها تباعاً في دراسة تفصيلية وموثقة، مدعمة بالأدلة التاريخية من كتب التاريخ، وكتب الأحاديث الصحاح، وكذلك من كتب السيرة النبوية.