بلال الطيب :
على يدِ الأمويين، ومن بعدهم العباسيين؛ تَعرض العلويُون لصنوف شتى من الاضطهاد، الأمر الذي ولد في نفوسهم حقداً دفيناً للوجود، أدعى بعضهم أحقيتهم في الوصاية على الإسلام والمسلمين، ولذات الغرض تفرقوا في أغلب بلدان الله، منهم من نجح، ومنهم من أخفق، نكلوا بجميع من اعترض طريقهم؛ بوصفهم كفار ونواصب، وإلى اليمن توجه أشهر دعاتهم الطامح يحيى بن الحسين.
دولة يحيى بن الحسين في صعدة، جاءت امتداداً لدولة آبائه «بني طباطبا» التي أسسها في الكوفة محمد بن إبراهيم طباطبا «199هـ / 815م»، أرسل الأخير دعاته إلى مكة والمدينة، ليستولي على صنعاء في العام التالي قريبه محمد إبراهيم بن موسى، جعله «طباطبا» والياً عليها، وسُمي ـ لكثرة فتكه باليمنيين ـ بـ «الجَزَّار».
حظي «الجَزَّار» بدعم «الأبناء» من بقايا الفرس، وبعض القبائل الشمالية، خاض بهم حروبه الجنونية، وخرَّب صعدة، ودمر سد الخانق فيها، وسداً آخراً في ساقين، وسبى الأطفال والنساء، وحين قضى «المأمون» بعد ثلاث سنوات على «دولة طباطبا»، أعلن «الجَزَّار» ولاءه لـ «الدولة العباسية»، بَيْدَ أنَّ أمر صنعاء لم يستقر له.
في العام «220هـ» أعلن ـ من مصر ـ القاسم بن إبراهيم طباطبا نفسه إماماً، وبث دعاته في الأقطار، وقيل أنه توجه قبل ذلك إلى اليمن، ولم يغادرها إلا بعد أن وصله خبر وفاة هارون الرشيد، ومن مصر انتقل إلى الحجاز، خاصة بعد أن اشتد طلب «المأمون» عليه، وظل مُختفياً إلى أن ولي «المُعتصم»، وحين كثر طلب الأخير له، استأوى وأولاده جبل الرس بالقرب من المدينة المنورة «223هـ»، فنسب إليه، وهناك ولد حفيده يحيى بن الحسين «245هـ».
وفي العام «280هـ / 894م» توجه «ابن الحسين» إلى صعدة تلبية لطلب بعض أعيانها، سبق وتوجهوا إليه في جبل الرس، ورغبوه بالقدوم إليهم، بايعوه إماماً، وبمساندة منهم توغل جنوباً حتى وصل إلى بلاد الشرف في نِهم، إلا أنهم ـ حسب توصيف «كاتب سيرته» ـ خذلوه، ورجعوا إلى ما يسخط الله، ورجع هو من حيث أتى.
أستمر أعيان قبيلة «خولان بن عامر» من «آل أبي فطيمة» من «بني سعد» بمراسلته، وحين رفض الحضور، أرسلوا إليه وفداً من كبرائهم، ألحوا عليه بالقدوم، وقيل أنهم أرادوا بذلك إغاضة بني عمومتهم «الأكيليين» من «الربيعة»، أعدائهم الموالين للعباسيين، وقد كانت بينهم حروب.
وصل «ابن الحسين» صعدة «6 صفر 284هـ»، ومعه حوالي «50» فرداً من أبناء عمومته، وكان عمه محمد بن القاسم قد امتنع عن الذهاب معه، وودعه في الرس قائلاً: «يا أبا الحسين لو حملتني ركبتاي لجاهدت معك يا بني، أشركنا الله في كل ما أنت فيه.. أتراني أعيش إلى وقت توجه إلي مما غنمته، ولو بمقدار عشرة دراهم أتبارك بها؟!».
فرح «بنو سعد» بمقدم «ابن الحسين»، رحبوا به، وبايعوه وبني عمومتهم من «الربيعة» ـ بعد أن أصلح بينهم ـ إماماً، تلقب بـ «الهادي إلى الحق»، وخوطب بـ «أمير المؤمنين»، وقد أعطاه خروجه ذاك إجلالاً ومهابة وهيمنة روحية كبيرة، ألزمتهم الطاعة دون تلكؤ، وكان دائماً ما يشبه نفسه بالرسول الأعظم؛ بل وخاطبهم: «والله لئن أطعتموني ما فقدتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شخصه».
ويذكر المؤرخون أنه كان قبل ذلك قد توجه إلى «طبرستان»، إلا أنَّ محاولته بتأسيس دولة هناك فشلت؛ والسببُ كثرة مُنافسيه، إلا أنه في المقابل كسب أنصاراً كُثر، توافدوا عليه فيما بعد، ونقل «كاتب سيرته» أنه وأثناء وصوله صعدة قال: «والله لئن لم يستوِ لي في اليمن أمر، لا رجعت إلى أهلي، أو أضرب الشرق والغرب حتى أقيم لله حجته».
وتحدث البعض أنَّ بني عمومته في جبل الرس كانوا قد عقدوا له البيعة قبل أن يفكر بالذهاب إلى اليمن، وأنه تردد بادئ الأمر في الذهاب إلى هذه الأخيرة، وروي عنه قوله: «كنت قد انثنيت عن الخروج إلى اليمن، وعزمت على أن أصرف رسل أهل اليمن، للذي كان بدا لي من شر أهل اليمن، وقلة رغبتهم في الحق»، وقوله: «وما خرجت اختياراً، ولا خرجت إلا اضطراراً لقيام الحجة علي».
وتتناقل كتب الزيدية مقولة منسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء فيها: «يخرج في هذا النهج ـ وأشار بيده إلى اليمن ـ رجل من ولدي اسمه يحيى، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحيى الله به الحق، ويميت به الباطل»، وتبعاً لذلك قال «الهادي»: «بمعونة الرحمن أملك أرضهم، واذل فيه كل من يتجمع».
كان لنجاح دعاة الدعوة الاسماعلية في اليمن أثره البارز في تحفيز «الهادي» لتوسيع نفوذه، وقد دانت له بادئ الأمر صعدة وضواحيها، ليتوجه بعد شهرين من مقدمه صوب نجران، بطلب من أعيانها، فدانت له تلك الجهة دون قتال، وقيل أنه أخرج عمال «الدولة العباسية» منها، وخطب له بمكة لـ «7» سنوات.
سيطر «الهادي» بعد ذلك على وشحة، ثم برط بعد معارك محدودة أصيب في إحداها، ثم توجه إلى «خيوان، وحجور، ووداعة»، سيطر عليهن دون قتال، وجعل على تلك المناطق الولاة من أقاربه، ثم توجه إلى «أثافت ـ خمر»، وهناك كادت الحرب أن تشتعل بينه وبين «شيخ بكيل» الدعام بن إبراهيم العبدي، ثم آل الأمر إلى الصلح، إلا أنه لم يدم طويلاً، نكثه أرحب بن الدعام، الذي عاود السيطرة على خمر، وقتل عامل الإمام عليها.
في وصفه لجنود الدعام، قال «كاتب سيرة الهادي»: «وكان مع الدعام جندٌ فُساق، يشربون الخُمور، ويركبون الذكور، ويفجرون بالنساء علانية، وخبروا أن بعض الجند أخذ جارية غصباً فافتضها وقتل أباها»، وأشار إلى أنَّه كان معهم «أربعمائة امرأة فاجرة»، وهي التوصيفات التي كررها ذات المؤرخ كثيراً في كتابه، وألصقها بجميع من خالف ابن عمه الإمام.
توجه «الهادي» إلى خمر بـ «730» مقاتل، لا غرض له إلا الانتقام، هزم «البكيليين»، وأجبر الدعام على الهروب إلى خيوان، وقد نكث سكان الأخيرة بيعته، فما كان منه حينها إلا أن آثر في «بني صريم» الاستقرار، مُنتظراً وصول النجدة والمدد.
كان «الهادي» قد راسل أصحابه في «طبرستان» طالباً المدد، فأمدوه بمئات «الطبريين»، وقيل بالآلاف، اختصهم بحراسته وقيادة جيشه، وأسماهم بالمهاجرين، فيما أسمى القبائل التي ساندته بالأنصار، تقوى بعد ذلك أمره، وبدأ الدعام يُفكر جدياً بالاستسلام، وقد جعله «الهادي» على ما تحت يديه.
ظل «الهادي» بعد ذلك مُتنقلاً ما بين «صعدة، وحوث، وخمر، وخيوان»، يصالح هؤلاء، ويحارب هؤلاء بهؤلاء، ولم يستقر خلال العام «286هـ» على حال، قاد أحمد بن الضحاك تمرد «حاشد» عليه، ليجنح الأخير بعد حروب وخطوب للسلم، وقد استقر في بلده خيوان، بضيافة محمد بن الإمام.
توجه «الهادي» خلال ذلك العام إلى نجران مرتين، وأخمد فيها تمردين، الأول قام به «الياميون»، والثاني ـ وهو الأكبر ـ قام به «بنو الحارث»، بقيادة عبدالله بن بسطام، والحارث بن حميد، وكانت له معهم عده معارك، قتل منهم خلق كثير، وأمر بجمع الجثث، وتعليقها مُنكسة فوق جذوع الشجر، حتى تعفنت وانتشر نتنها، فما كان من الأهالي إلا أن قدموا عليه، قبلوا رأسه ويديه ورجليه، فإذن لهم بعد طول استجداء في دفنها.
كما قام بهدم حصونهم، وقطع نخيلهم وأعنابهم، وغنم منهم غنائم كثيرة، وقال عن خروجه ذاك عدة قصائد، نقتطف من إحداها:
وسرت إلى نجران في كل طالب
بثأر كتاب الله أروع غاضب
فقل لابن بسطام وأعور حارث
مكانكما إن كنتما في الكتائب
قبل خروج «الهادي» إلى نجران امتنع أحمد بن عباد الأكيلي عن الخروج معه، لتنشب في صعدة معركة صغيرة، تجددت بسببها ثارات «بنو سعد» و«الربيعة»، ليقوم «الأكيلي» بعد مغادرة القوات الإمامية بالإفراج عن بعض المساجين، عاد «الهادي» من نجران منتصف العام «287هـ» مُغاضباً، وقال فيهم:
خانوا الإله وعطلوا أحكامه
فمتى أرى البيض البواتر ترتع
فيهم بتدمر وقعة في وقعها
فيها رؤوسهم تحز وتقطع
حتى يجازوا بالذي قد قدموا
مثلا بمثل والأنوف تجدع
توجه «الهادي» بجيش كبير إلى «علاف» حيث تحصن «الأكيليون»، ونفذ فيهم وعده ووعيده، قتل منهم من قتل، ونفى من نفى، ثم أمر بحرق قراهم، وهدم منازلهم، وقطع أعنابهم، ونهب عبيدهم ومواشيهم، مبرراً ذلك بما فعله الرسول مع يهود «بني النضير»، وما هي إلا أيام قلائل حتى راسله «ابن عباد» طالباً الأمان، فلم يؤمنه، فما كان من ألأخير إلا أن توجه إلى بغداد، طالباً النجدة من «المعتضد» العباسي.
قال «الهادي» عن هزيمة «الأكيليين» تلك:
وهم ما بين كلب هارب
ذاهل العقل ومرعوب صعق
عاينوا الموت فخلوا دورهم
وعيالات لهم عند الفرق
وزروعاً وعناباً جمة
وسلاحاً وأثاثاً وسرق
وعبيداً ودروعاً غنمت
وثياباً ومتاعاً وورق
.. يتبع