23.1 C
الجمهورية اليمنية
12:58 صباحًا - 22 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
Image default
اقلام حرة

جبل صبر.. أكبر مَعاقل الكرامة  

لأبنائه ماض وحاضر مُشرف في مُقاومة الإمامة

بلال الطيب:

جَبل صبر الأشم، ليس مُجرد مُرتفعات شماء تَتعالى بهيبة وجلال نحو ازرقاق السماء، أو شعابًا خَضراء مُكللة بالغيوم؛ بل طَوْد شامخ، وحارس يقض، ومُقاوم مُتوثب، ومَجد وارف، وله من اسمه نصيب، ومَرارته التي هي أمر من الصَبِر، لا يتجرعها إلا كُل معتدٍ أثيم. كان وما يزال أبرز مَعاقل الكرامة، إنْ لم يكن أكبرها وآخرها، ولأبنائه تاريخ مُشرف في مُقاومة الإمامة، تَصدوا في مَراحل مُتفرقة لتوغلاتها، وقاوموها حتى آخر طلقة، وما تزال عزيمتهم الوثابة الرافضة للظلم باقية على قيد ثورة.

تَحفل كتب التاريخ ببطولات مَائزة لأبناء جبل صبر، حق لأحفادهم أنْ يفخروا بها، وهم كما شاركوا في طرد قوات الناصر المُطهر شرف الدين من مدينة تعز 1569م، انتفضوا على أحد عُمال المُتوكل إسماعيل بن القاسم 1672م، وصار خضوعهم بعد الحادثة الأخيرة للدولة القاسمية شكليًا، وعن ذلك قال نيبور الذي زار اليمن بعد تلك الانتفاضة بـ 90 عامًا، «يُوجد في الجبل أكثر من 100 شيخ، لا يرتبط منهم بالدولة إلا القليل، وأكثرهم يَحكمُون مناطقهم بشكل مُستقل، ويورثون الحكم لأبنائهم، ولا يدفعون للإمام أي ضرائب».

عالم النبات الفرنسي بول امل بوتا الذي زار جبل صبر في سنة 1836م، أكد هو الآخر ما ذكره نيبور، حيث قال: «وأهالي الجبل مُتكاتفون ومُتحدون طالما تعلق الأمر بدفع عدوان، والوقوف تجاه أي مُحاولات لتدمير منطقتهم من قبل العصابات العسكرية، ولذا فإنَّ منظر القرى المُتناثرة في الجبل يوحي بأنَّها تعيش في رخاء وأمن، كما أنَّ المُدرجات الزراعية تُعطي انطباعًا بأنَّ الأهالي يُمارسون الزراعة فيها بشكل مُستمر».

بعد زيارة بوتا بتسع سنوات قدم إلى تعز حاكم أبي عريش (جيزان) حسين بن حيدر، وسيطر عليها، وسلمها لحليفه الإمام الزيدي المُتوكل محمد بن يحيى، وخسر في مَعركته مع أهالي جبل صبر حوالي 60 رجلًا، وقام بالقبض على الشيخ أحمد النجادة قائد المُقاومة الصبرية في أعالي ذات الجبل.

ثلاثة محاور

ما أنْ اجتاحت قوات المُتوكل يحيى حميد الدين مدينة تعز، تحت قيادة قريبه أحمد بن قاسم ديسمبر 1918م، حتى سارع سكان تلك المدينة بالاستنجاد بمشايخ جبل صبر، والأفيوش، فأمدهم أولئك المشايخ بالمُقاتلين، وذلك بالتزامن مع قدوم الضابط التركي إسماعيل الأسود من ريمة، ومعه عدد من الجنود، سلم الأخير الأسلحة التي بحوزته للمُقاومين، والذين كان مُقاتلي جبل صبر من ضمنهم، وشاركهم حربهم ضد الإماميين، وأجبروا الأخيرين على مُغادرة تلك المدينة بعد أسبوع من مَقدمهم.

في تلك الأثناء، أعلن الشيخ محمد عايض العقاب تمرده في حبيش، هجم وعدد من أبناء قبيلته على العساكر الإماميين المتواجدين هناك، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم في مركز الناحية (ظَلْمَة)، وكانت تلك الانتفاضة ذريعة الاجتياح الإمامي بصورته الفظيعة، وقع الاختيار حينها لعلي الوزير (الذئب الأسود) أنْ يكون أميرًا للجيش، وصدر الأمر المُتوكلي إليه بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات اليمن الأسفل قاطبة.

بعد إخماده لانتفاضة حبيش، توجه الذئب الأسود صوب العدين، ثم تعز، ليدخل الأخيرة بقواته المُتحفزة ثالث أيام التشريق 9 سبتمبر 1919م، ولم يكد يحط رحاله فيها، وفي منزل أحمد علي باشا المُتوكل تحديدًا، ويَأمر عساكره بالخِطاط في منازل مُواطني ذات المدينة، حتى فاجئه بعض أبناء جبل صبر بانتفاضة عارمة هدَّت كيانه.

قطع ثوار صبر المياه عن المدينة المنكوبة، وهجموا على حامياتها الإمامية، قتلوا من قتلوا، وأتبعوا هجومهم الكبير بتدمير عدد من الثكنات العسكرية التي بناها الأتراك؛ كي لا يستفيد الإماميون منها، وانقضوا على مجاميع قبلية من نهم، كانت في مُؤخرة الجيش الإمامي؛ وأصلوها بعد معركة حامية كأس المنون، وعن تلك المعركة قال المُؤرخ أحمد الوزير: «وكان الجيش قد قطع ذلك اليوم ما يقرب من 35 كم، مشيًا على الأقدام.. لتتلقفه قوات المُتمردين الرابضين على قمم الجبال، ورؤوس الآكام، ومسارب المياه».

وكان ثوار جبل صبر قد تقطعوا قبل ذلك للأمير علي الوزير نفسه، وذلك في منطقتي الحوبان، وقاع إبليس، والموقع الأخير يقع تحت مُستشفى الرفاعي حاليًا، وعن هذه الجُزئية قال المُؤرخ الوزير: «وقد أمسى – يقصد عمه الأمير – ليلة خروجه من ذي السفال في القاعدة، ثم غادرها صباحًا إلى تعز، فتلقاه بعض كمائن من أهل صبر.. وأطلقوا الرصاص على جنوده، فأمر فصيلة من الجيش بمطاردتهم، فولوا هاربين».

وتأكيدًا لما سبق، أفاد الباحث عُمر الشجاع – نقلًا عن والده الذي نقل عن قريبهما عبدالحميد الشجاع الذي عاصر تلك الأحداث – أنَّ ثوار صبر تمركزوا في لحظات انتفاضتهم الأولى في أكمة الأكابر (العكابر)، والأحياء المُجاورة لها، وذلك تحت قيادة البطل الثائر الشيخ ثابت مهيوب الصامت، وأنَّ أولى المُواجهات حدثت في منطقة قاع إبليس، أبلي فيها المُقامون بلاءً حسنًا، وأصيب منهم الشيخ أحمد علي بشر في قدمه، وأسر عبدالله محمد العدوف بعد إصابته.

كسر الإماميون بعد يومين من المُواجهات ذلك الخط الدفاعي، وما كان أنْ يتم لهم ذلك؛ لولا قيام أحد قناصيهم باعتلاء منارة مسجد ثعبات، وقتله لقائد تلك المقاومة، الشيخ ثابت الصامت، كان الأخير مُتمركزًا في سطح داره القريب من ذات المسجد، ثابتًا في مترسه، مُترصدًا للإماميين، وحوله في المنازل والتباب المُجاورة عدد من المقاومين، وحين رأى الأخيرون دماء قائدهم تسيل من الميزاب، أدركوا أنَّه قُتل، فأدلفوا راجعين إلى الجبل، مُحتمين بتحصيناته.

وبالعودة إلى شهادة المُؤرخ الإمامي أحمد الوزير، فقد أفاد هو الآخر أنَّ الثوار استولوا على قلعة القاهرة أيضًا، وتحصنوا فيها وفي التباب المجاورة، وزاد في تعظيم خطورتهم قائلًا: «لذلك كان على قوات الأمير أنْ تخوض مَعركة غير مُتكافئة؛ معركة يقف فيها المجاهدون على أرضٍ مكشوفة، وفي الإمكان اصطيادهم من أماكن مستورة، ومن مُرتفعات مُسيطر عليها بإحكام».

ما أنْ أدرك الذئب الأسود خطورة تلك الانتفاضة، حتى سارع بالخروج من منزل أحمد علي باشا في العُرضي، وتوجه راكبًا فوق حصانه صوب الباب الكبير، وهناك فًرَّق – كما أفاد ابن أخيه – قواته، حسب خطط حربية مُحكمة، ثم أدلف عائدًا إلى منزل الباشا، متابعًا سير المَعارك عن بعد، تنفيذًا لنصيحة النقيب عبدالله بن سعيد الجبري، الذي طلب منه المكوث في المدينة؛ ليكون سندًا لهم في حال حدث أي طارئ، أو تحققت هزيمتهم.

قَسَّم الأمير علي الوزير قواته – قبل عودته تلك – إلى ثلاثة محاور، قوات المحور الأول (الميمنة)، وكانت وجهتها منطقة صينة، ومنها كان صعودها إلى حدنان، ثم مشرعة، ثم أدود، ثم كان هبوطها إلى وادي الضباب، ومنه توجهت صوب المسراخ. وقوات المحور الثاني (الميسرة)، وقد كانت وجهتها منطقة ثعبات، وصالة، ثم كان مرورها بعبدان، ثم عاودت التفافها وصولًا إلى المسراخ.

أما المحور الثالث (القلب)، والذي كان من المُفترض أنْ يقوده الأمير علي الوزير بنفسه، لولا اعتراض الشيخ عبدالله الجبري كما سبق أنْ ذكرنا، فقد كان المحور الرئيس، وقاده الشيخ المذكور باقتدار، وكانت وجهة قواته منطقة الدمغة، ومنها كان صعودها إلى قرى عزلة الموادم (الخَسِف، وقَرَاضَة، والقُويع، والكُريفة، والشِّعبْ، والجُبَة)، وصولًا إلى ذمرين، وسيعة، والمعقاب، والعروس، ثم كان هبوطها إلى حصبان، والتحامها بقوات الميمنة والميسرة في المسراخ.

وإلى قلعة القاهرة أرسل الأمير علي الوزير – كما أفاد ابن أخيه – جنودًا مخصوصين، تمكنوا بعد معركة سريعة من السيطرة عليها، بعد أنْ أجبروا المقاومين المتحصنين فيها على الاستسلام، وبذلك أمنت تلك الفرقة مدينة تعز، فيما انحصرت مُواجهات أقرانهم في شعاب جبل صبر.

مُقاومة الموادم

احتدمت المُواجهات – كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير – في المحاور الثلاثة السابق ذكرها، وعنها قال ذات المُؤرخ مُوضحًا خطورة الموقف: «كانت المواجهة هائلة بالفعل، فالجبل يتصعد في السماء بارتفاع حاد شاهق، وهو إلى ذلك واسع ومتشعب الأودية، والمتمردون يعرفون طرقه ومداخله ومخارجه، وقد سيطروا على نقاطه المهمة، وحشدوا قواتهم في المواقع الرئيسية»، وأضاف مُقارنًا: «كانت معركة صبر هائلة، تشبه بنتائجها وجسارتها معركة حبيش، إلا أنَّ هذه أوسع من تلك وأكبر مدى، وإنْ كانت تلك أشد ضراوة، وأشد بأسًا، وأخطر موقفًا».

لم يَصلنا للأسف الشديد من أخبار تلك المُواجهات إلا النزر اليسير، حيث طغا على الذاكرة الشفهية طابع الشكوى والتذمر، ونقل تفصيل الجُرم الإمامي في حق أبناء جبل صبر باستفاضة بالغة، دون الإشارة إلى بطولات من تصدوا لتلك الحملة، إلا ما ندر، وكواحد من أبناء الجبل، تعبت كثيرًا في استحضار جانبًا من تلك التفاصيل المُشرفة، تاركًا باقي المهمة للمهتمين، وللأيام القادمة إنْ كان في العمر بقية.

سأكتفي هنا بنقل حوادث استثنائية حصلت بالقرب من قريتي (المعاين – سيعة – صبر الموادم)، تركزت تفاصيلها في المحور الثالث (القلب)، وكانت في الأصل امتداد لمعركة سقوط الخط الدفاعي الأول في ثعبات، وهي بمُجملها مثال ناجز لحوادث أخرى قد تكون إلى حدٍ ما مُشابهة، ولن أبخل – قطعًا – بنشر خفاياها – أي تلك الحوادث المُتصلة – حالما يمدني بها الرواة والمدونين الثقاة.

زحفت قوات هذا المحور تحت قيادة النقيب عبدالله الجبري صوب عزلة الموادم، لتحدث في قرية قراضة – كما أفاد الباحث عمر الشجاع – مُناوشات محدودة، استشهد على إثرها الشيخ علي ناجي الصامت، والشيخ سيف عبدالملك محمد الصامت، وجرح ابن عم الأخير محمد مدهش، وفي قرية الجُبَة حدثت مَعركة شرسة، استشهد فيها الشيخ عبدالمولى عبدالرحمن راجح الشجاع، وأحمد محمد مُقبل الشجاع.

تم في المعركة الأخيرة – كما أفاد ذات الباحث – أسر البطل أحمد قاسم الرامسي، وللأخير موقف بطولي تحفظه الذاكرة الشفهية جيدًا، أوهم مُعتقليه أنَّ بندقيته خالية من الرصاص، وأنَّه لن يُسلمها إلا لقائدهم، وما أنْ وصل إلى حضرة ذلك القائد، حتى أرداه برصاصته الوحيدة قتيلًا.

كانت خسائر الإماميين في معارك عزلة الموادم فادحة، وإلى جانب ذلك القائد الذي لم نحصل على اسمه، والذي لم يكن قطعًا النقيب عبدالله الجبري، فالأخير قال عنه المُؤرخ أحمد الوزير أنَّه «بطل حركة صبر بحق»، وكان لاسمه حضور في أحداث انتفاضتي المقاطرة، والبيضاء، وإلى جانب ذلك القائد مجهول الاسم، خسر الإماميون – كما أفاد الشيخ عبدالرحمن سعيد – حوالي 70 مُقاتلًا، غير الجرحى، وهو أمر لم يعترف به مُؤرخو الإمامة بتاتًا.

سقطت عزلة الموادم، وسقطت قراها المُتناثرة، وغادر سُكانها منازلهم إلى القرى المُجاورة، واستقر مُعظمهم في منطقة الديم، وشرقي صبر، وجرت في حقهم حوادث إذلالية سافرة، سنأتي على تناولها في السطور الآتية.

مُقاومة سيعة

استمر مسير القوات الإمامية صعودًا، واستولوا على قرى جبل صبر المُتناثرة، بقتال أو بغير قتال، وصولًا إلى عزلة المعقاب، وقبلها عزلة سيعة، وفي الأخيرة القابعة أسفل قمة الجبل (العروس) من جهة الغرب، تصدى بنو المحيا لذلك التوغل المُوحش، وحدثت اشرس المُواجهات في قرية المساحين المجاورة لقريتي، وتصدر المقاومة فيها البطلان الشيخ راجح محمد المحيا، والشيخ عبدالله عبدالرحمن محمد المحيا، وقد حدثني حفيد الأخير الشيخ عبدالجليل محمود عن بُطولات بني قبيلته المائزة.

قال عبدالجليل أنَّه وعلى مشارف قريته (المساحين) لقي أكثر من 15 عسكريًا إماميًا مَصرعهم، وأنَّ المُقاومين رموا بجثثهم في دهاليز أحد مدافن الحبوب القديمة، ثم قاموا بردم ذلك المدفن، وأنَّ جده عبدالله قاوم حتى لم يتبق معه إلا رصاصة واحدة، ليجد نفسه – أي الجد – فجأة بمُواجهة أحد العساكر المُتمركزين فوق أسطح أحد المنازل، يطلب منه الاستسلام، أظهر له الجد رأس بندقيته تمويهًا، وما أنْ أطلق ذلك العسكري النار، حتى حدد مكانه، وأرداه من فوره قتيلًا.

لم يُغادر الجد المقاوم – كما أفاد حفيده – مَترسه إلا بعد أنْ رأى دم العسكري يخرج من الميزاب، وما أنْ خاطر وتجاوز حدود قريته المُحاصرة، حتى سمع صوت الشيخ راجح محمد شريكه في المقاومة، والذي كان قد غادر القرية قبله، يناديه من الجهة الأخرى: «مشامش.. مشامش»، ففطن أنَّ المقصود المرور من حول المشامش، وهكذا تمكن ذلك البطل المقاوم من اللحاق بأفراد قريته عبر ذلك الطريق الآمن، وقد استقروا جميعًا في عزلة وتير المُجاورة، حتى انقشاع تلك الغُمة.

اقتحم الإماميون قرية المساحين، ووجدوا أمامهم أحد اليهود، استخدموه كدليل، واقتحموا بيت عبدالحق حسن، ووجدوا فيه طفلة وحيدة تبكي، وحين تَأكد لفرقة الاستطلاع أنَّ القرية خالية، رموا أحد الفرش من إحدى نوافذ ذلك المنزل، وهكذا توافد بقية العساكر، ولم يغادروا تلك القرية إلا بعد أنْ تركوها خاوية على عروشها.

مُكافأة مالية

النهب لم يطال قرية المساحين وحدها؛ بل طال جميع القُرى المُجاورة، وقرى جبل صبر قاطبة، وقد حدثتني جدتي المرحومة مسك أحمد عبده نقلًا عن والدتها التي عاصرت تلك الأحداث، أنَّ الأخيرة رأت عساكر الإمام ينهبون قُرى عزلة سيعة، وذلك من على أحوال التُتن (الرَجِمة)، والأخيرة مُرتفع شاهق نزح إليه جانبًا من أبناء تلك العزلة، فيما نزح آخرون – كما سبق أن ذكرنا – إلى عزلة وتير.

المشهد الذي تذكرت جدتي مسك تفاصيله جيدًا، تمثل بقيادة العساكر المُتفيدين لأبقار وأغنام المواطنين فوق طريق طويل ومُشرف، يصل العزلة بمنطقة ذمرين المُطلة على مدينة تعز، فيما الرعية المكلومون، أصحاب ذلك القطيع الكبير، تكاد قلوبهم تنفطر، وهم يُلقون على مواشيهم نظرة الوداع الأخيرة.

وأضافت جدتي – رحمها الله – أنَّ الذئب الأسود أمر عساكره المُتعطشة للفيد باستباحة جبل صبر لثلاثة أيام، وأن النهب طال غير مواشي المواطنين، أموالهم المُدخرة، وأثاثهم المُهترئة، وحبوبهم المُخزنة، وعن ذلك قال المُؤرخ الإمامي عبدالكريم مُطهر مُتباهيًا: «واحتوى الجند على غنائم عظيمة، وأموال جسيمة».

كما أمر الأمير علي الوزير بمُصادرة ما بحوزة المواطنين من سلاح وذخائر؛ كي لا تدور عليه من قبلهم الدوائر، والتي كان مُعظمها من الأسلحة العثمانية التي أعطاها لهم الضابط التركي إسماعيل الأسود، ومن قبله اللواء علي سعيد باشا (قائد حملة لحج)، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «شرع – يقصد الأمير – في جمع ما كان بأيدي أهل صبر من سلاح الحكومة العثمانية».

مارس الذئب الأسود في حق أبناء جبل صبر بشكل عام، وفي حق المقاومين بشكل خاص جرائم حرب شنيعة، استمر بمُطاردة الأخيرين، وأعلن عن مُكافأة مالية لمن يأتيه برأس أحدهم، وعن ذلك قال المُؤرخ محمد المجاهد: «واستمرت مُطاردة الفارين من قادة المقاومة الصبريين، وأعلنت مُكافأة لكل من يأتي برأس أحدهم قدرها ريـالاً فضيًا، وكان هذا كثير في تلك الفترة، وكان يُؤتى بالرأس مكتوبًا عليه اسم صاحبه، ويقبض القاتل المُكافأة»!

وحول هذه الجزئية ثَمة حكاية مُتصلة أوردها الباحث عمر الشجاع، مَفادها أنَّ بعض العساكر المُتفيدين قاموا فور علمهم بخبر مُكافأة الأمير بقتل رجل أعمى طاعن بالسن، يُدعى سعيد يحيى إسماعيل النحلة، كان مُختبئًا في كهف حود فتانا في منطقة السهوة التابعة لقرية قراضة، وبمعنى أصح كان نازحًا في ذلك الكهف بفعل المواجهات السابق ذكرها.

من جهته قال المُؤرخ أحمد الوزير: أنَّ عمه الأمير علق رؤوس قادة المقاومة فوق سور منزل أحمد علي باشا الذي يقيم فيه، مُؤولًا هذه الحادثة على هواه، مُوضحًا أنَّ الغرض منها تمثل بإغاظة صاحب المنزل الذي اتهمه بالتواطؤ مع الثوار، ناقلًا عن الأخير مقولة: «الآن انتهينا»؛ خاصة بعد أنْ رأى أصدقاء له من بني بشر ضمن القتلى!

لم يشر المُؤرخ مطهر إلى ذلك التواطؤ، واكتفى بالقول: «وكثرت منهم القتلى – يقصد المقاومين – واحتزت منهم رؤوس، ونزل بساحتهم جزاءً لبغيهم مرارة البؤس»، وأضاف مكملًا المشهد من وجهة نظر إمامية: «وأتى الأمير بالأسرى تترى بالأمان، بعد أنْ أخلد أهل صبر إلى الطاعة، وندموا على ما فعلوا، وعلموا أنَّهم جلبوا على أنفسهم هذه الحرب الضروس، واستعجلوا يوم حتوفهم بما لاقوه في ذلك اليوم العبوس».

ما أنْ أحكمت القوات الإمامية سيطرتها على جبل صبر، حتى جاءت – كما أفاد الشيخ عبدالرحمن سعيد – أوامر الأمير علي الوزير لها بالخِطاط في منازل المواطنين، وبالأخص الدُور المشرفة، واستخدامها كثكنات حربية، ومن تلك الدور: دار السلف في الدمغة، ودار الغيظة في الخسف، وداري المراغة، والشجاع في قراضة، ودار الصليلة في الخشبة، ودار الطوينة في الشِّعب، ودار النَجد في القويع، وداري الممطار، والتؤالبي في الجباري، ودار النود في النراعية، ودار الحصاني في حِدة، ودار أكمة الموز في العنين، والأخير يُطل على عُزلتي مشرعة، وسيعة.

وأتبع الأمير علي الوزير سيطرته تلك بأخذ رهائن الطاعة من مشايخ وأعيان جبل صبر، وعلى سبيل المثال لا الحصر أخذ من قرية قراضة عبدالحميد محمد سعيد الشجاع، وأحمد عبدالجليل الحميدي، وحمود مدهش الصامت، ومن قرية الجُبَة أخذ علي عبده الحاج الشجاع، وأرسلهم جميعًا الى سجن الحدا في ذمار، أما الشيخ الجريح أحمد علي بشر فقد تم إرساله إلى سجن حجة، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد مرور ثلاث سنوات.

تصرفات إذلالية

بالغ الذئب الأسود في إذلال أبناء جبل صبر، إرهابًا لغيرهم من أبناء لواء تعز، وهو ما أكده المُؤرخ مُطهر بقوله: «وقد كان لتلك الوقائع صدىً أقام ناموس الهيبة، وأسكن في النفوس المترددة من الطاعة معنى الخيبة، فأقبل الناس إلى الطاعة أفواجًا، وأمتلأ مقام الأمير بالرؤساء والمشايخ، وبذلوا الرهائن المختارة، وانقادوا».

جعل الأمير علي الوزير عمالة جبل صبر لحسين جبالة، وإمعانًا في إذلال سكان ذلك الجبل الصلد، انتقل هو نفسه للإقامة في منطقة صهلة 1921م، وذلك بعد أنْ قام بنهب منزل الشيخ محمد حسن بشر، المُطل على مدينة تعز، وأكمل بناءه، ونقل إليه أهله، وأسماه بـ (دار النصر)، النصر على أبناء الجبل وغيرهم! وهو الاسم الذي أعطاه أيضًا لذات المنطقة، ثم أتبع ذلك ببناء منزل آخر أسماه (دار الشرف)، وطلا كلا الدارين بالنورة، وأنارهما بالكهرباء، بعد أنْ استقدم مولدًا كبيرًا لذات الغرض.

وأتبع ذلك ببناء مسجد، وبرندة، ومدرسة خاصة بأبناء رجالات إمارته، ومحكمة، ومفرج، وجعل من تلك المنطقة – كما أفاد ابن أخيه – قاعدة للواء تعز، ومنع سكانها من البناء في الأماكن المُشرفة، واستحدث في مَداخل القرى المجاورة، وفي التباب المطلة على مقر إقامته أربع نوب حربية، وذلك بعد حادثة تنكيله بمشايخ تعز مارس 1923م، وأرفد تلك النوب بمجاميع قبلية من خُلص أنصاره، ورتب في قرية الخسف الواقعة أسفل صهلة الشيخ صالح الطماح ومعه مجاميع من قبيلة بني عبد التابعة لعيال يزيد، وجعل منزل ذلك الشيخ المُستحدث سجنًا سياسيًا.

أما النوب الأربع السابق ذكرها، فقد كانت الأولى (نوبة الاحناش) على طريق قريتي الكُريفة، والقُويع، وجعل الذئب الأسود فيها مجاميع من حاشد تحت قيادة الشيخ حمود الأبيض، والثانية (نوبة صبل النظام) في قراضة العليا (محلة العكد)، على طريق قريتي القويع، والجُبَة، وجعل فيها النقيب محمد الشايف، ومجاميع بكيلية من بيت العذري، وقد كان هذا النقيب – كما أفاد الباحث عمر الشجاع – من أفضل القادة، وأعدلهم، تأثر بالفكر الصوفي السائد حينها، واستقر في دار الشجاع بضيافة الشيخ عبدالرحمن محمد الشجاع، وتوفي في ذات المنطقة، ودُفن في تُربة الشيخ عبدالقادر بن يحيى الطيب.

أما النوبة الثالثة فقد كانت تحت قرية الشِّعب، وجعل فيها الذئب الأسود مجاميع حاشدية تحت قيادة العريف يحيى بن سرحان المحجاني، وأخوه عبدالله، والرابعة (نوبة الجباري)، وجعل عليها الشيخ حميد الرداعي ومجاميع حاشدية أيضًا، وكانت هذه النوبة مُطلة على قرية الشِّعب وعلى النوب الأخرى.

إلى ذلك تحدث الباحث عمر الشجاع عن وجود نوبة خامسة (نوبة قراضة) في محلة الحومرة، وأفاد أنَّ مهمتها المزدوجة تمثلت بحماية دار النصر، وقلعة القاهرة على السواء. والراجح أنَّ هذه النوبة أمر الأمير علي الوزير بتشييدها فور انتقاله إلى صهلة، وفي المحصلة التراجيدية عمد أبناء المنطقة بعد قيام الثورة السبتمبرية على هدم تلك النوب الحربية؛ كي لا تذكرهم بسنوات الظلم والإذلال والشتات الذي عاشه أباءهم، وحلت محلها منازل عامرة بالمحبة والود.

وتفيد الذاكرة الشفهية أنَّ التصرفات الإذلالية الإمامية في حق أبناء جبل صبر لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد كان المواطنين عُرضة للنهب والاعتقال، بذرائع واهية، وبالأخص حال نزولهم إلى مدينة تعز للتسوق؛ ومن هنا بدأ أولئك المُتضررون يُرسلون بنسائهم بدلًا عنهم، مُستفيدون من الأعراف القبلية التي لا تجيز لعساكر الإمامة القبليين التعرض للنساء.

صحيح أنَّ مَعارك جبل صبر كانت – كما أفاد المُؤرخ الوزير – فاصلة وحاسمة، هذا فيما يَخص الجانب الإمامي، إلا أنَّها فيما يخص الجانب الصبري، كانت عفوية، وغير مُنظمة، فرضتها تلك المرحلة، وتصدرها بعض الثوار المغمورين، بأسلحتهم المتواضعة، والذين لم يكونوا في الأصل منضوين تحت قيادة واحدة؛ ولهذا سهل استنزاف طاقاتهم، وإهدار ذخيرتهم، واختراق صفوفهم، وتفريق شملهم، خلال مدة يسيرة.

ومع ذلك لم تتوقف روح الرفض والتمرد عند أبناء جبل صبر، وما هي إلا ستة أشهر من حدوث تلك الانتفاضة، حتى قام أبناء عزلة صنمات بقتل 50 فردًا من عساكر الذئب الأسود الأجلاف أبريل 1920م، في حادثة أهتز لها الجبل من ذروة رأسه حتى أخمص قدميه، وما تزال تلك الروح الوثابة، الرافضة للظلم، والمُنتصرة للكرامة، تُقاوم حتى اللحظة.

*نقلا عن صحيفة (26 سبتمبر)

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد