24.2 C
الجمهورية اليمنية
8:55 صباحًا - 3 مايو, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

وكانت السبعون أشرف أيام الخلود

بلال الطيب :
بعيداً عن «العُقدة اليـَزنية»؛ كانت «مَلحمة السبعين يوماً» انتصاراً يمنياً خالصاً، وامتداداُ طبيعياً لتأكيد هويتنا الوطنية، وإعادة إعلام الناس بـ «تفاصيلها» يُشكل تجذيراً لـ «الثورة»، وتأصيلاً لـ «الوعي» لدى الأجيال، حتى لا تُصادر تلك الروح الـوثابة من الذاكرة والوجـدان، ذَهب الجميع لمقـارعة السماء، وأثبتـوا بـ «أفواه البنادق»، أن «صنعاء 68م» غير «صنعاء 48م»، فيما شعار «الجمهورية أو الموت» يأتي هادراً من خلف دخان الرصاص.

القضية اليمنية كانت حاضرة في مؤتمر القمة العربية بـ «الخرطوم»، الذي عُقد أواخر «أغسطس» من العام «1967»، بعد نكسة «حزيران»، وكان من قراراته تشكيل لجنة ثلاثية من «العراق» و«المغرب» و«السودان»، تشرف على وقف الإمدادات السعودية للملكيين، وعلى انسحاب القوات المَصرية المساندة للجمهوريين، وإجراء استفتاء شعبي يُقرر فيه اليمنيون النظام الذي يرتضونه، تُشكل على إثره حكومة ذات قاعدة عريضة من جميع الأطراف.

لم يكن الجمهوريون والملكيون راضون على تلك الاتفاقية، ففي «8 سبتمبر» أعلن الرئيس عبدالله السلال بأنه لن يلتزم بها، لأنه يعتبرها مثل اتفاقية «جدة 1965» السابق فشلها، وفي ذات اليوم أعلن من بيروت الأمير الحسن «رئيس وزراء الملكيين»، بأنهم لا يعتبرون أنفسهم طرفاً فيها، حتى ينسحب المصريون من الأراضي اليمنية.

موقف «السلال» أحدث شرخاً في العلاقات «اليمنية – المصرية»، زاد اتساعه حين رفض مجيئ تلك اللجنة، وبمجرد وصولها إلى صنعاء «3 اكتوبر» بطائرة وحماية مصرية، حرض الشارع عليها، فخرجت الجماهير غاضبة بمظاهرة من «المستشفى الجمهوري»، تعرضت المسيرة لحظة وصولها إلى مقر «القيادة المصرية» لإطلاق نار، أدى إلى سقوط مجموعة من المتظاهرين بين قتيل وجريح، تطور الأمر إلى اشتباكات بين «قوات مصرية» و«قوات يمنية»، قتل فيها حوالي «30» مصرياً، وقيل أكثر من ذلك.

عادت اللجنة الثلاثية أدراجها، واكتفت بالمراقبة عن بُعد، ووصل من استهزاء رئيسها محمد محجوب، أن خاطب محسن العيني بالقول: «هل أنا رئيس وزراء السودان أم اليمن، وإني لا أتساءل ما هي هذه اليمن وماذا تساوي؟!!».

ترجع التمهيدات الأولى لحصار صنعاء، إلى شهر «أغسطس1967»، حيث قامت مجاميع ملكية بقطع طريق «الحديدة ـ صنعاء»، تم تجميع قوات عسكرية وشعبية لمواجهتها، نجحت في طردها، لتبقى تلك القوات في تأمين ذلك الطريق، حتى بداية الحصار الفعلي.

قامت «القوة الثالثة» بحركة «5 نوفمبر»، أعتبر البعض أنها جاءت تنفيذاً لقرارات وتوصيات مُؤتمر الخرطوم، واجتمع لمواجهة ذلك قادة سياسيون وعسكريون، وبعض قادة التكتلات الحزبية، سُر الملكيون لتلك التباينات، وفسروه بـ «الانشقاق الخطير»، وبالفعل أجادوا استغلاله، ساعدهم في ذلك انسحاب القوات المصرية، ومعها كل أسلحتها ومعداتها، ومغادرة الخبراء «السوفيت»، وضعف الجيش الجمهوري، وعدم إمداده بالسلاح والذخائر.

أورد محسن العيني في احدى شهاداته أن جمال عبد الناصر قال له حينها: «لا تشددوا فنحن في ظروف عصيبة، وكل شيء يتوقف على شعبكم وقواتكم المسلحة»، كما أورد أحد الثوار المفرج عنهم من المعتقلات المصرية، بموجب اتفاقية الخرطوم السابق ذكرها، أن «عبد الناصر» التقاهم بالقاهرة، ونصحهم بمصالحة الملكيين، وحين رآهم أكثر حماساً، قال ناصحاً: «احمدوا الله على سلامة رؤوسكم؛ ماذا تعملون وأنتم بعدد الأصابع؛ بينما الجيش المصري بكل عدته وعدده لم يحقق الغرض المنشود».

يؤكد البعض، أن استعدادات الملكيين كانت قد بدأت من قبل، وذلك حين أكتفى المصريون بحماية مثلث «صنعاء- تعز- الحديدة»، بخطة عسكرية أحذت اسم «النفس الطويل»، وهي الخطة التي أعطت بيت «حميد الدين» ومرتزقتهم فرصة كبيرة لتركيز وتكثيف أنشطتهم بين صفوف القبائل، وذهب علي محمد هاشم «نائب رئيس هيئة الأركان» حينها أبعد من ذلك؛ واتهم القيادة المصرية بأنها لم تترك الجيش اليمني بعدده وأسلحته ونظامه، لأنها لم تكن لها نية جادة في بنائه، وأن أبناء هذا الشعب يعرفون هذه الحقيقة جيداً.

كان محمد بن الحسين المُحرك الفعلي للملكيين، فيما توارى «البدر»، عقدوا مؤتمر «الخزائن»، ثم نقضوا اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت في «5أغسطس»، وجددت في «13نوفمبر»، وبدأت جحافلهم المتوحشة قفزاتها من أقصى الشمال، وبالمال والسلاح والترغيب والتخويف استطاعوا الدخول إلى مناطق عديدة، في البدء سقطت صعدة، وحوصرت حجة، ورويداً رويداً بدأ الضغط يقترب على صنعاء.

تكفل بـوضع خطة الهجوم، التي أسميت بـ «الجنادل»، عدد من كبار القادة العسكريين الأجانب، كان يطلق عليهم «المغامرون في حرب اليمن»، وعلى رأسهم الجنرال اليهودي الأمريكي «بروس كندي» مستشار البدر، والخبير البريطاني «ديفيد سمايلي»، و«الميجر بنكلي»، و«بيلي ماكلين»، والفرنسي «بوب دينار»، صاحب شعار: «وكانت هنا جمهورية»، ولهذا الأخير تصريح صحفي أعترف فيه أن اسرائيل دعمت القوات الملكية بأسلحة نوعية، أنزلت لهم عبر المظلات.

صحيفة «سلاح الجو الإسرائيلي» أكدت ذلك؛ نقلاً عن طيارين إسرائيليين شاركوا في تلك العملية، التي أعطيت اسم «صلصة»، ونشرت وثائق سرية عنها؛ وصورا لبعض الطيارين الإسرائيليين، وبعض من أسمتهم موالين لـ «البدر»، وبحوزتهم ذاك السلاح، ومن مفارقات القدر أن الرئيس السابق علي عبدالله صالح قام بتكريم هذا المرتزق الكبير، ومنحه وسام من الدرجة الأولى.

تلخص هدف «الجنادل» في السيطرة على صنعاء من خلال حرب سريعة وخاطفة لا تتعدى الأيام الأربعة، تُمهد بقطع طرق الإمداد والتموين، والانقضاض السريع على المواقع العسكرية، والضرب الشديد بالمدفعية الثقيلة، ومن ثم الهجوم من أربع جهات، محور شرقي بقيادة قاسم مُنصر، وغربي بقيادة احمد بن الحسين، وشمالي بقيادة علي بن إبراهيم، وجنوبي بقيادة ناجي الغادر، ومع كل محور عدد من الخبراء الأجانب، للتعامل مع الأسلحة المُعقدة، التي لا يعرف الملكيون استخدامها، وجميع هذه المحاور كانت تحت إشراف محمد بن الحسين الذي استقر في «حدة» لمدة «40» يوماً.

تم حشد حوالي «70,000» من رجال القبائل، و«10,000» جندي نظامي، إلى جانب قوات عسكرية تجمعت من «بلجيكا، وفرنسا، وأمريكا، وإيران، وإسرائيل، وجنوب أفريقيا»، وحوالي «300» ضابط من المرتزقة الأجانب، فيما تكفلت العربية السعودية بدفع «300» مليون دولار، ومن بيروت صرح ناطق جمهوري، بأن السعودية مستمرة بدعمها للملكيين، على الرغم من تحقيق انسحاب القوات المصرية، حسب اتفاقيتي «جدة» و«الخرطوم».

كما قامت بريطانيا بتسليح حوالي «20,000» من أبناء القبائل، وأذاع راديو لندن حينها أن الملكيين زودوا بأكبر صفقة سلاح، قدرت قيمتها بـ «400» مليون جنيه استرليني، بالإضافة إلى المئات من سيارات «الوانيتات» السريعة، الامريكية الصنع.

كانت التجمعات الجمهورية مُفككة الأوصال، ما أن اقترب الخطر حتى أخذت تتقارب وتتجانس، لم يُترك لـ «الثرثرة السياسية» مجالاً، وعلى الفور فُتحت المخازن، ووزعت الذخائر، وبدأ التدريب الميداني في ساحات المدارس والمعسكرات، كما تحركت النخب السياسية تؤكد الرغبة في السلام، وتطلب العون من أصدقاء الجمهورية، وتُشهد العالم على عدالة القضية.

لعبت الدبلوماسية اليمنية دوراً لا يستهان به، خاصة وأن سقوط صنعاء كان متوقعاً، وحين دخل حسن مكي وزير الخارجية، في نقاش حاد مع «محجوب» رئيس اللجنة الثلاثية، رد عليه الأخير: «يا ابني الله يصلحك أنت لا تزال شاباً أما نحن فمهمتنا هي العمل على إنقاذ الأرواح، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه»، تدخل حينها السفير السعودي في بيروت، وقال عبارته المستفزة للوفد الجمهوري: «دعوكم من هؤلاء؛ غداً سيسحلون في شوارع صنعاء».

كان هجوم الملكيين الأول على جبل «حروة»، القابع على البوابة الرئيسية التي تربط العاصمة بثلاث طرق رئيسية، «سنحان»، «خولان»، «بني بهلول»، سارعت حينها «قوات شعبية» بقيادة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لاستعادته، بمساعدة مجاميع من قوات الصاعقة، قادمة من «معبر»، انسحبت القوتان من شدة القصف، وهكذا تحقق للملكيين «24 نوفمبر» احتلال الجبل، وقطع طريق «صنعاء- تعز»، وقد اتهم الشيخ الأحمر القبائل المحيطة بذلك الجبل، بخذلانهم للجمهورية، وتنكرهم لجميع الاتفاقيات المبرمة سلفاً.

تقدم الملكيون دون مقاومة إلى مشارف صنعاء، وتمركزوا في «دار الحيد»، و«دار سلم»، و«حزيز»، و«أرتل»، لتعطى في اليوم التالي الأوامر للقوات المتواجدة في طريق «الحديدة ـ صنعاء» بسرعة الانسحاب، كي لا ينفرد بها الملكيون القادمون من ذلك الاتجاه، والأهم من ذلك، تعزيز قوى الدفاع عن العاصمة من الداخل، في خطة مغايرة لما حدث في «مارس 1948».

بدأ حصار صنعاء الفعلي صبيحة «28 نوفمبر»، بعد أن فرض الملكيون سيطرتهم على كافة السلاسل الجبلية المُحيطة بالعاصمة، ما أكسبهم كثيرا من الميزات التكتيكية، حيث تمكنوا من نصب مدافع بعيدة المدى على قمم تلك الجبال، ليبدؤوا مع مطلع «ديسمبر»، بالتزامن مع مغادرة آخر جندي مصري ميناء الحديدة، وطرد آخر جندي بريطاني من عدن؛ ليبدؤوا قصف «الإذاعة، والقصر الجمهوري، وثكنات العرضي، والكهرباء» من «بيت بوس»، وجبل «عيبان»، فيما تولت المدفعية المنصوبة على جبل «الطويل» في «بني حشيش» قصف «الروضة، ومصنع الغزل والنسيج، والأحياء الشمالية للمدينة، ومدرسة المظلات، ومطار الرحبة»، لتستخدم الطائرات مهبطاً صغيراً جنوب العاصمة، «السبعين» حالياً.
حدثت حين ذاك عديد مواجهات أعادت الثقة بالنفس، في البدء رُدع هجوم قاسم مُنصر وطردت قواته من «الحافة، وظهر حمير، وقرية الدجاج»، كان ضمن المشاركين في المعركة المقدم عبدالله دارس، احتل «تبة المطلاع»، ورابط فيها حتى انتهى الحصار، وسميت باسمه، كما قام ملكيون آخرون باحتلال جبل «النهدين»، لم يمض يوم على ذلك حتى جُمعت مجاميع قبلية وحرروا الجبل، إلا أن الملكيين عادوا وسيطروا عليه مرة أخرى، فكانت قوات الصاعقة والمظلات لهم بالمرصاد.

بالتزامن مع الهجوم الملكي الأول، قام أفراد من قبيلة «بني حشيش»، يستقلون دراجات نارية، بإلقاء قنابل يدوية على المارة في «سوق الملح»، و«باب اليمن»، و«قاع العلفي»، تم القبض عليهم بعد احتجاز جميع الدراجات النارية في العاصمة، ونالوا العقاب الرادع، لهم ولمن تسول لهم أنفسهم القيام بعمليات تخريبية مماثلة.

كانت الاستراتيجية الدفاعية للقوات الجمهورية، التي لا يتجاوز عددها الـ «4,000» مقاتل، قائمة على مبدأ «الدفاع الضيق»، اللواء العاشر يدافع عن الجانب الغربي، وعن الجانب الشرقي ألوية العروبة والوحدة، فيما كتائب المظلات والصاعقة تَعمل باستماته كقوة ذات فعالية على كل الجبهات، ومُشكلة هذه القوات تكمن في أن أعدادها وإن مكنتها من حماية أبواب المدينة، إلا أنها تُقصر في إمكانية القيام بدور هجومي لدحر المُتسللين في معركة حاسمة، يضاف إلى ذلك أن تلك القوات لم تكن ذات وحدات منتظمة ومتكاملة، مما أدى إلى اختلال موازين القوى لصالح القوات المعادية بنسبة «7-1».

في ظل تلك المتغيرات العاصفة، كان لا بد من تماسك الصف الجمهوري، خاصة بعد هروب «الضباط الكبار»، وقيامهم بـ «رحلة الشتاء» إلى «القاهرة، وبيروت، وأسمرة»، في البدء عُين النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب ذو الـ «25» ربيعاً رئيساً لهيئة الأركان «10ديسمبر»، تحت ضغط وإلحاح كبيرين من زملائه الضباط «ذوي الرتب الصغيرة»، كما استبدلت حكومة العيني المُستقيلة، بحكومة الفريق حسن العمري «21ديسمبر»، إلى جانب استمراره في مهامه «قائداً أعلى للجيش» وعضواً في المجلس الجمهوري.

سبق لعمر الجاوي وهو من أبطال تلك الملحمة، أن تحدث في كتاب له بشيء من التفصيل عن هروب أولئك القادة الكبار، وهو تصرف عده كثيرون بالأمر الإيجابي، كون الهاربين تركوا المجال لضباط شباب، أثبتوا أنهم الأجدر، وكانوا إلى جانب طلاب كليتي «الشرطة» و«الحربية» طليعة وطنية، وثمرة ايجابية للثورة الأم، أثرت كثيراً في مسار الأحداث.

«الجاوي» اتهم الفريق العمري «بأن الظروف وضعته في جو الحصار عُنوة»، وهذا باعتقاد البعض تجني على الرجل؛ لأنه عاد قبل الحصار، ولعب دوراً هاماً في قيادة المعارك، بغض النظر عن أخطاء ارتكبت فيما بعد، سوأ كانت مقصودة أو غير مقصودة.

كان «العَمري» قبل قرار تعينه بثلاثة أيام في منطقة «المساجد»، يشحذ همم القوات لبلوغ قمة «عيبان»، تولى الرد بنفسه من إحدى الدبابات على الملكيين الذين بادروه بضرب كثيف، فيما جنود آخرون سارعوا لاقتحام الجبل، وحين بلغوا غايتهم تأخر الدعم، أمر «العمري» الجميع بالانسحاب، وتلك اشكالية كانت تلاحق الرجل، ما أن يُتم نصرا، أو يقود هجوماً ـ كما قال «الجاوي»ـ لا يكمله، وقد انتقده لذلك كثيرون، من ضمنهم سنان ابو لحوم، الذي قال: «مع تقديري لشجاعة العمري، هناك بعض أخطاء قد لا يكون له ذنب فيها، فقد كان يخرج صباح كل يوم يجمع الناس، وهم يلحقونه، وآخر النهار يركن عليهم ويعود؛ وهم يلحقوا به».

فيما يقول الصحفي المصري مكرم محمد أحمد: «في ساحة المعركة – كان العمري يقف جندياً في الساحة، وفي مرات كثيرة اشتبك الرجل وحرسه في المعارك إلى جوار الجنود والضباط، كان ذلك يسبب الكثير من المشاكل للجيش، فرصاصة طائشة قد تصيبه في هذه الفترة الحرجة، فيكسب الملكيون قيمة واسعة، وقد يخلع ذلك تأثيره على سكان المدينة، تلك كانت رؤية الجيش، بينما كان العمري يُصر أن يتقدم الجنود وهم يحتلون جبل عيبان، ولكن العناد الذي هو سمة بارزة فيه كان يُمكنه من كسب النقاش في النهاية».

في ذات اليوم الذي أعلن فيه عن تشكيل الحكومة، حَشد الملكيون جميع قواتهم في المحور «الجنوبي» و«الشرقي»، لغرض الاستيلاء على جبل «نُقم»، لتدور في رحاه معارك طاحنة استمرت لأكثر من أربع ساعات، وحين دخلت المواجهة إلى العمق، حصل قتال بالسلاح الأبيض، تقهقرت القوات المَلكية، وتكبدت خسائر فادحة.

بعد تلك الواقعة بثلاثة أيام، قامت مجموعتان من أفراد لواء الوحدة بعملية إغارة على القوات الملكية المتمركزة بجبل «الطويل»، تمكنتا من الوصول بعد معركة بطولية غير متكافئة، أستشهد فيها جميع المقاتلين، بعد أن فرضوا سيطرتهم على الموقع لفترة محدودة، «عامل الإشارة» كان يتكلم مع غرفة العمليات: «الأفراد قتلوا لم أبق إلا أنا وحيداً»؛ وأستشهد في الأخير.

أواخر «ديسمبر» كانت صنعاء تعيش أقسى لحظات الحصار، تملك اليأس من تبقى من قادة الجيش، اجتمعوا في منزل العمري مع البقية الباقية من الوزراء، وممثلي المقاومة الشعبية، والمشايخ، لبحث عودة اللجنة الثلاثية، المطرودة سلفاً، تحت مبررات أن الملكيين يقتربون من «عَصِـر»، والظروف العسكرية لا تـُساعد على هزيمتهم، فيما برقيات المسئولين في الحديدة تؤكد نفاد الذخيرة والإمدادات والوقود، وأن سلاح الطيران لن يتحرك من الغد، وقد قوبل الاقتراح بالرفض من القيادات الشابة، والمقاومة الشعبية.

في اليوم التالي، كانت جحافل المَلكيين تُحكم سيطرتها على مواقع مهمة في جبل «عَصِر»، في محاولة لاجتياح العاصمة وحسم المعركة، دارت معارك ضارية، استمرت لأكثر من «48» ساعه، قتلى وجرحى كُثر سقطوا من الجانبين، هرب من تبقى من الضباط الكبار، فيما «العمري» يهدد بأن «شنطته» جاهزة للسفر إذا لم يُصد الهجوم، ولولا التدخل والنجدة السريعة من «قوات الصاعقة، والمقاومة الشعبية، وسلاح الطيران»، لكانت صنعاء سقطت بالفعل، لتعرض في صبيحة اليوم التالي، بعد صلاة عيد الفطر مباشرة، حوالي «20» جثة لقتلى ملكيين، في ميدان التحرير، فكانت رسالة قوية أخرست المرجفون، وأرعبت الإمامة وأنصارها.

انتهى رمضان مع دخول عام ميلادي جديد، الشتاء دخل مرحلته الأسخن، وفي «يناير1968» قام الجمهوريون بثلاث محاولات كبيرة لفك طريق «صنعاء ـ تعز»، كان القادمون من مناطق اليمن الأسفل «جيش، ومقاومة شعبية» أكثر حماساً لإنقاذ الجمهورية، وفي «يسلح» اختلط الحابل بالنابل، وتبادل المتحاربون المواقع أكثر من مرة، فيما قدرت الإصابات من الجانبين بحوالي «3,000» ما بين قتيل وجريح.

تجسدت أبهى لحظات الإقدام بقيام مجموعة عسكرية باقتحام دفاعات الملكيين، لم تكد تصل إلى رأس «النقيل»، حتى جاءت الأوامر بالانسحاب، قلة فضلوا «الموت» أو «الأسر» على التراجع، طوقهم العدو مُركزا قصفه على دبابة وحيدة؛ رفض قائدها علي الشيباني الترجل منها، وتركها غنيمة، ورمى بنفسه وبها في جرف سحيق، فيما الضابط محمد السامعي قائد تلك المجموعة ظل ممسكاً بزمام رشاشه الصغير، لم تمنعه الإصابات المتوالية على جسده عن التوقف، وحين رآه زملاءه مزهواً برتبته العسكرية، طالبوه بنزعها حتى لا يُركز عليه أكثر، قال لهم: «بذلت الجهد من أجل الحصول عليها، وأريد أن أستشهد بها».

استعادت القوات الجمهورية عافيتها، تجاوزت مربع «الدفاع الضيق»، إلى مربع «الدفاع النشيط»، وبدأت بشن عمليات هجومية مباغتة، حصلت على أسلحة حديثة وأسرى، وعادت إلى مواقعها سالمة، يقول مكرم محمد أحمد: «كان الثوار يحققون كل يوم انتصاراً صغيراً، يركبون الجبال المحيطة جبلا إثر جبل، ويعودون في المساء بمجموعة من الأسلحة، يعرضونها في الميدان كلها تحمل شعار الصداقة الأمريكية، وفي بعض الأحيان كانوا يعودون ببعض الرؤوس المجزورة من العنق ليدقوها على باب اليمن»، ثم تطور الأمر إلى عمليات هجومية كاسحة، مع الاحتفاظ بالمواقع التي تم استعادتها.

مع نهاية الحصار، صرح «العمري» لوسائل الإعلام أن مجموع الهاونات والمدافع الصاروخية التي كانت تصلي صنعاء بحممها، تجاوز الـ «100» مدفع، فيما قدرت القذائف التي سقطت داخل العاصمة بحوالي «3,000» قذيفة، وفي حساب عبد الرقيب عبدالوهاب «رئيس هيئة الأركان»، أن «40» عملية عسكرية، هي مجموع العمليات التي جرت خلال تلك الفترة، وأتبع تصريحه، بالقول: «كان علينا أن نحرز كل يوم انتصاراً صغيراً، ومن مجموع هذه الانتصارات الصغيرة، يتحسن الموقف يوماً بعد يوم، حتى نتمكن من احراز نصر كبير».

ضحايا كُثر سقطوا جراء القصف العشوائي، وكم من قذيفة تجاوزت هدفها المرصود، وطالت مواطنين أبرياء، في «باب اليمن» وصلت قذيفة، وفي «باب السباح» وصلت أخرى، وبين «البابين» افتتحت أبواب جهنم، وتوزع عشرات الضحايا ما بين قتيل وجريح، الجثث ملقاة على الأرض، والدماء تسيل فوق الاسفلت، حتى الجامع الكبير، ومدرسة البنات الوحيدة، ومنازل المواطنين المهترئة، لم يسلموا من القصف.

لم يكد ينتهي «يناير» حتى بدأ مركز الجمهوريين يتقوى من الجو، «30» طائرة روسية وصلت للتو، أوكلت مهمة قيادتها لطيارين يمنيين تخرجوا حديثاُ، بمساعدة طيارين «سوريين» و«روس»، كثفت القوات الجوية من هجومها، وفي «جُحانة» كان ثمة تجمع لحشود قبلية، أحد الطيارين المُستجدين رمقهم من الجو، أبلغ القيادة، تم قصفهم، كانت تلك الانتكاسة «ضربة قاصمة» أصابت الملكيين في مقتل.

القوات الجوية اليمنية التي تشكلت خلال أيام الحصار، كان لها الدور الأكبر في حسم المعركة، سجلت حضورها الفاعل خلال المعارك الأخيرة، أوكل إليها تنفيذ مهام عسكرية ضد تجمعات الملكيين ومرتزقتهم، وملاحقتهم، ومراقبة تحركاتهم، بالإضافة إلى تأمين وصول التموين العسكري والغذائي لأبطال الحصار، ورغم الأحوال الجوية السيئة، أدى الطيارون اليمنيون مهامهم باقتدار فائق، وسقط منهم ثلاثة شهداء، وشهيد سوري.

حَلَّ «شُباط»، بدأت بوادر الحسم تلوح في الأفق، ومن«3 إلى8» من ذات الشهر، كانت معارك «عيبان» الأخيرة تحجز صفحاتها بزهو في كتب التاريخ، كطرفي كماشة، وتحت ستار كثيف من الضباب، وزخات خفيفة من المطر، أطبقت «حشود النصر» على القوات الملكية المتمركزة هناك، قوات مُسلحة ومقاومة شعبية خرجت من صنعاء بقيادة عبد الرقيب عبد الوهاب، ومن الحديدة خرجت قوات أخرى مدعومة بقوات شعبية قوامها «5,000» مقاتل، بقيادة أحمد عبد ربه العوضي، مسنودة بسلاح الطيران.

كغير العادة كان صباح «8 فبراير» زاهياً مُشرقاً، تحطمت فيه متارس الملكيين، وفروا تاركين مئات القتلى، وعشرات المدافع، وفي «متنه» التحمت قوتا النصر، شاع الخبر فتوافدت الجماهير مُحتفية، أعتلا «العمري» إحدى الدبابات، مقدماً «العواضي» بطلاً للنصر، مُنهياً خلاف استمر لشهور بين الرجلين، واصل الأخير مسيره وقواته صوب صنعاء، دخلوها دخول الفاتحين، بعد أن قصفوا المواقع الملكية في «بيت بوس، وأرتل، وحدة»، فيما تمركزت القوات القادمة من صنعاء، في جبل «عيبان»، والمناطق التي تمت السيطرة عليها.

«أربعينياتُنا فيها رَفَضْنا، وضُحى سبتمبرٍ فيه رَفَضْنا، ومـدى السبعيـين يوماً قد رفضنا، وسنمضي رافضـين»، صنعاء العصية على السقوط أصبحت «مدينة مفتوحة»، تلاشت من حولها كمائن «الونيت»، وحمم «الهوزر» و«الهاون»، وطغت على الجميع نشوة احتفاء بنصر حاسم واستثنائي، قال أحدهم إنه يشبه موقعة «الخندق» حين تبددت تحالفات القضاء على هذا الدين، وقال آخر إنه يشبه حصار «لينغراد» حين انحسرت قوة «نازية» كبرى كانت تجتاح العالم دون توقف، أحس «داعمو التخلف» أن روح الثورة قد تتجاوزهم، فبادروا إلى حلول لم ترضي المُنتصرين؛ لكنها حقنت الدمـاء.

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد