تعز ــ وجدي السالمي:
في ظل استمرار الحصار الخانق على مدينة تعز اليمنية منذ ثلاث سنوات، والذي فاقم المعاناة الإنسانية للمدنيين خلال الحرب المتواصلة في البلاد بلا أفق للحل، تبرز مبادرات اجتماعية لتخفيف معاناة الأهالي، وتتمحور خصوصاً حول فتح ممرات إنسانية وتبادل الأسرى وجثث القتلى.
في هذا السياق، تمكّنت مبادرة مجتمعية من إجراء عملية تبادل للجثث بين جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) والجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية في محافظة تعز، جنوبي البلاد، بعد وساطات بين الطرفين، وبعد حوالي أربعة أشهر من غارة جوية لمقاتلات التحالف بقيادة السعودية على معسكر للشرطة العسكرية في العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الانقلابيون. وقد أدت الغارة، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2017، إلى مقتل أكثر من ثلاثين شخصاً، من بينهم أشخاص كانت تحتجزهم جماعة الحوثي في المعسكر بذريعة دعمهم للرئيس عبدربه منصور هادي، وبعضهم ممن قاتلوا في صفوف قوات وفصائل الشرعية. وسلّم الحوثيون بعض الجثث لأهاليها، عدا جثث المنتسبين لفصائل “المقاومة الشعبية” والجيش التابعين لمحافظة تعز، لأنهم كما وصفهم الحوثيون “عناصر خطرة”، بحسب ما قاله أحد أقارب القتلى.
”
تمكّنت مبادرة مجتمعية من إجراء عملية تبادل للجثث بين الحوثيين والجيش في تعز بعد وساطات بين الطرفين
” وقامت اللجنة المجتمعية بعملية تبادل للجثث بين الطرفين، ومع ذلك لم تتمكن بعض الأمهات من إلقاء النظرة الأخيرة على جثامين أولادهن بعد إيصالها بسيارات تابعة للصليب الأحمر، بسبب الحصار الذي يفرضه الحوثيون على مدينة تعز، والذي أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني وتقييد حركة التجارة والإغاثات الإنسانية وقطع التواصل بين الأهالي.
فهد سعيد (35 عاماً)، من ريف شمال المدينة، تحدث لـ”العربي الجديد” عن معاناته جراء الحصار المفروض على المدينة. وأوضح أن زوجته أصيبت بفشل كلوي، ولأن مركز غسيل الكلى وسط المدينة المحاصرة، اضطر لتأجيل التوجّه مراراً إلى المدينة حتى ألزمته التقارير الطبية بضرورة ذلك. استيقظ فجراً، وبدأ رحلته الشاقة التي زادت عن سبع ساعات، وهي المسافة التي كان يقطعها في ربع ساعة قبيل الحرب. وتحدث فهد عن أنه حين توفيت زوجته واضطر للعودة من المدينة إلى الريف ليدفنها هناك، سافر ليلاً واضطر للمخاطرة بالمرور بين الجبال الشاهقة، ما جعله يجازف باقتحام المنفذ الغربي ليصبح ضحية رصاص الطرفين، الانقلابيين والجيش الوطني.
وسط هذه المعاناة، تبرز مساعٍ لتخفيف حدة المأساة، ومنها المبادرة المجتمعية، التي قال أحد أعضائها لـ”العربي الجديد”، إن “جهوداً كبيرة بُذلت من أجل فتح ممر إنساني آمن وسهل خلال السنتين الماضيتين، ولكن لم يتحقق ذلك حتى الآن، وما تزال الجهود قائمة”، موضحاً أن “هناك استعانة بوجهاء اجتماعيين كبار من أبناء تعز لهم تأثير على طرفي الحرب”. وأشار إلى أن “الجهود ما تزال قائمة لفتح ممرات إنسانية، غير أننا لا نستطيع الجزم بوقت معين لفتح الممرات، لكن ما نستطيع الجزم به أن طرفي الحرب وصلا إلى قناعة أنه من الواجب عليهما مراعاة مصالح الناس ولو بحدها الأدنى، وذلك ما كان غائباً خلال السنتين الماضيتين”.
والتقت اللجنة المجتمعية بمحافظ تعز، أمين محمد محمود، يوم الأربعاء الماضي، لمناقشة عدد من النقاط، من بينها فتح ممرات إنسانية آمنة. وأكد المحافظ أنه (أي جانب الشرعية الذي يمثله) ليس لديه أي تحفّظ حول فتح الممرات، مشدداً على الترتيبات العسكرية على الأرض في ما يتعلق بالمناطق المقرر عبرها فتح تلك المنافذ.
وطرح جانب الشرعية أن تكون المنافذ من جولة القصر شرقاً، وغراب غرباً ومنفذ الأربعين شمال غرب المدينة، إلا أن المؤكد أن الطرفين اتفقا على منفذ غراب ومنفذ الأربعين. وفي السياق، علمت “العربي الجديد” أن منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في اليمن أكد عزمه على زيارة تعز خلال الأيام المقبلة، خلال اتصال مع المحافظ يوم الثلاثاء الماضي.
وكانت قيادة محور تعز ومحافظها قد وجّها مذكرة إلى مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة (أوتشا)، لفتح منافذ للتخفيف من المعاناة الإنسانية للمدنيين. وأشارت المذكرة المرسلة بتاريخ 11 مارس/ آذار الماضي، إلى أن تعز لا تزال ومنذ ثلاث سنوات “ترزح تحت حصار خانق من جميع المداخل الرئيسية، ما فاقم من المعاناة الإنسانية للمدنيين، ومن أجل تخفيف المعاناة عن المدنيين وتسهيل تنقلاتهم وتسهيل مرور المساعدات الإنسانية والإغاثية للمدنيين المحاصرين ولتسهيل حركة مرور المواطنين والشاحنات التجارية للمدينة، فإنه لا مانع لدينا من فتح المنافذ المذكورة، وهي السمن، الصابون، المطار القديم، غرباً، وجولة القصر، فرزة صنعاء، كلابة شرقاً، ومحطة الجهيم الصفا شرقاً”، حسب ما جاء في المذكرة، التي أشارت إلى أن “كل المنافذ مفتوحة ومؤمنة من قبلنا”.
وإضافة إلى فتح المعابر، تبرز قضية تبادل جثث القتلى، وهي من النقاط التي ناقشتها اللجنة المجتمعية مع محافظ تعز، يوم الأربعاء. وبحسب مصادر مطلعة، فإن المحافظ أكد أن السلطة المحلية تتعامل مع موضوع الجثث وفق القوانين الإنسانية الدولية وليس لديها أي تحفّظ على هذا الملف وهي على استعداد لتسليم الجثث مباشرة.
وأكد عضو اللجنة المجتمعية، المحامي عبدالله شداد، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “طرفي الحرب كانا أكثر تجاوباً مع إجراءات تبادل الجثث كجانب إنساني، على الرغم من أننا ما زلنا نبذل جهداً ليكون تسليم الجثث مباشرة بمجرد مقتل أصحابها من دون الاحتفاظ بها تحت أي مبرر ومن أي طرف”. وأوضح شداد أن اللجنة تواصل مع “بعض المنظمات الدولية، منها منظمات الأمم المتحدة وكذلك منظمة الصليب الأحمر الدولي، ليكون لها دور أساسي في الجهود التي تُبذل”، مضيفاً “لكن لم نجد أي دور مساند أو داعم أو مشارك بشكل مباشر مع جهودنا في الميدان، وأحياناً فقط كان الصليب الأحمر يسهم في نقل جثة أو جثث متى رأى أن الوضع آمن أكثر من اللازم، وغير ذلك لم نر أي جهود تُذكر لا في دعم جهود التوفيق والتقارب بين القيادات صاحبة القرار في الميدان، ولا القيادات المتحكمة وصانعة القرار في صنعاء أو في تعز”.
ولفت إلى أن “بعض الوجهاء القبليين يساندون أحياناً الجهود باتصالاتهم أو مساعدتهم البسيطة حتى لا تقف الجهود عند الحد الأدنى من الإمكانيات”، مشيراً إلى أن “مختلف أطراف الحرب لم توصد أبوابها أمام أي جهود ساعية للسلام، ولعل تفاقم الوضع الإنساني جعل التجاوب أكثر والرغبة حقيقية وبنسبة عالية وبشكل أفضل”.
”
تواجه المساعي الإنسانية مشكلة انعدام الثقة بين طرفي الصراع وصعوبة التنقل
” وعن أبرز العراقيل التي تواجه المساعي الإنسانية للجنة، قال شداد إنها تمثّلت في البداية “بانعدام الثقة بين طرفي الصراع، ثم قلة الإمكانيات وشحتها كونها جهود وإمكانات ذاتية، وصعوبة التنقل بين الأطراف بسبب طبيعة الحرب وأحياناً أخرى بسبب تعدد الجهات صاحبة القرار، وكذلك ممارسة بعض الشخصيات النافذة ضغوطاً رغبة بإطالة النقاش والحوار حول جزئيات بسيطة يُفترض تجاوزها إنسانياً”.
وكانت اللجنة المجتمعية قد نجحت في أول عملية معلن عنها لتبادل الأسرى بين “المقاومة الشعبية” والجيش الوطني من جهة، وجماعة الحوثيين من جهة أخرى، في يونيو/ حزيران 2016 وأسفرت عن إطلاق ما يقارب المائتي أسير ومختطف من الطرفين.
وكشف شداد عن عملية أخرى لم يتم الإعلان عن تفاصيلها حرصاً على استكمال الجهود، وأحياناً عمليات لا يتم الإعلان عنها حماية لمشاعر الأسر التي تتطلع لأن يكون أولادها ضمن الأسرى والمعتقلين المفرج عنهم، وحتى لا تتم إعاقة الجهود المبذولة، خصوصاً أن مثل هذه الجوانب تحتاج وقتاً وصبراً ومتابعة مستمرة.
وكانت “العربي الجديد” قد كشفت في 5 يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، عن أكبر صفقة لتبادل الأسرى بين الحوثيين والجيش الوطني و”المقاومة الشعبية”، على أن تتم على مراحل لضمان تنفيذها. وتضمنت وثيقة الاتفاق أن يكون عبداللطيف المرادي وبسام البرق، وهما من لجنة المبادرة المجتمعية، وسيطين بين الطرفين في هذا الاتفاق الملزم “أخلاقياً وإنسانياً ودينياً، ولا يجوز التخلّف عما ورد فيه والعمل من أجل تنفيذ بنوده”. وكان من المقرر أن تقوم جماعة الحوثي بالإفراج عن 1200 معتقل من أبناء محافظتي تعز وإب، على أن يطلق الجيش الوطني و”مقاومة” تعز 250 أسيراً حوثياً، إلا أن الاتفاق لم ير النور حتى الآن.