27.3 C
الجمهورية اليمنية
5:42 مساءً - 21 نوفمبر, 2024
موقع اليمن الاتحادي
اقلام حرة

المرثية الأخيرة

*حامد السقاف:

أشهد أني عشت حياتي ، قطفت من كل مرحلة ، أشهى ما يمكنني الحصول عليه . تتابعت الفصول وتدرجت ، وأخذت دوراتها الطبيعية ، وأنا أدور معها ، في الصيف آن الكرم يقتطف ، كنت أعيش مع قاطفات العنب في جبال اليونان ، وسهول تركيا . فتهب رياح الخريف ، وتنثر في الأجواء الأوراق الصفراء ، اليابسة ، وتعري الشجر من ملبوساته ، فاختبأت داخل شرنقة الحياة ، حتى تكتمل دورتي . في الشتاء ذهبت بحثا عن البياض ، في بلاد الثلوج كي أغتسل برذاذه الناعم ، وأعيش متعة الأرتواء . ثم يأتي الربيع ، لتزهر البراعم ، وتتفتح الأقحوانات ، وتلمع الكواكب في السماوات الزرقاء الصافية ، فأركض باتجاه صديقي البحر ، ليطهرني من أدران التعب اليومي ، ويغسل همومي وأحزاني ، بأمواجه البيضاء البلّورية .
هذا ترف عشته ، دون تخطيط أو رسومات ، هكذا رُسمت أقداري ، لم أتدخل في توجيه تضاريسها .. تلك طريقة وجدتها أمامي ، فمشيت . دون فلسفة أو أي تفسسر عقلاني أو ميتافيزيقي ؟
لست أنا من يقرر قدري ومصيري ! ذلك شأن البشرية منذ البدايات الأولى للطفولة البشرية ، وقبل تشكل الحضارات !
لذا فإن الموت والحياة بيد الله ، وما بينهما من برزخ دنيوي وآخروي ، هو ما كتب أن نعيشها ، بالقليل من الرضى والكثير من التذمرات والشكاوى .. خلق الإنسان هلوعا .
لا أدعي أني عشت طفولة ذهبية ، وفي نفس الوقت لم أعش طفولة محرومة أو بائسة ، وما بينهما تتالت مراحل العمر ( الصبا – الشباب – الرجولة – خريف العمر – الكهولة – الشيخوخة ، ولم أصل بعد لأرذل العمر !
سافرت كثيرا ، شاهدت عالما أجمل ، عشت السعادة والمرارة ، مررت بخيبات ومحطات مشرقة قرأت كثيرا ، وكان الكتاب صديقي الذي لا يفارقني :
وخير جليس في الزمان كتاب .
ولكنها في الأخير ، كلها محصلة حياتي .
ومن يعش حولا – لا أبا لك – يسأم .
كان أبي – رحمه الله – يخاف من الموت ، ظل هاجسه الذي لا يفارقه بقية عمره . كان يقول أن الفواق ( الفهقة ) من علامات النزع الأخير !
( الزغطّة ) كما يطلق عليها أهل مصر . وكان أبي يثير زوبعته كلما جاءت الفهقة – العلامة ، كي تأخذه للشهيق الأخير .
كنت في تعز أشاهد مع حفيدي الجميل – الصغير الحسين ، مسلسلات توم وجيري . وكثيرا ما تتكرر تلك المطارادات التي لا تنتهي . كان الكلب الشرس الضخم يحاول أن يجعل طفله الصغير المدلل أن ينام ، بعد أن أنهكته الفهقة ، وفي لحظات السكون ، تأتي عاصفة الضجيج القادمة من المطاردات العبثية ، التي تزيد الموقف سخرية وإضحاكا !
كم هي المرات التي شاهدت فيها هذا المنظر ، ولكن الكلب لا يموت من الفواق – الفهقة – الزغطّة
حين أتلقى العزاء ، أرجو ألّا أصنف ضمن الرجل الذى قضى معظم حياته مناضلا في سبيل الوطن . لا أحبذ الكلمة ، مستهلكة ، انتزعت من مسارها التاريخي . ولن تضيف شيئا لسيرتي لا أعتقد أن أحدكم سيحتج على ذلك ، لأن حب الوطن ، لا يحتاج إلى شهادة من أحد .
رحل الذين أحبهم ، وسيرحل البقية ، لا ديمومة لحيّ . لذا فإن الموت لا يخيف ، يأتي أحيانا خلاصا من عذابات الحياة الأخيرة ، والفنان المجاهد وغيره رحلوا وهم يبتسمون للنجوم .
ستقيمون لي العزاء ، ويكتسي الحزن وجوهكم ، وتتناقلون الخبر الأسيف ، واستعادة الذكرى المشتركة ، والحكايات التي عشناها معا … ثم تمضي الأيام ، وتمر السنين ، ولا تتوقف دورات الفصول عن الحركة .
أصعب مرحلة في هذا الرحيل والرثاء ، كيفية تفسير غياب الراحل للأحفاد ، حين يفتقدون عجوزهم الذي كان هنا يوما ما ، يداعبهم ، يلاعبهم ، وفجأة اختفى !
حزن الأحبة هو الذي يترك الغصة ، الزوجة والأولاد ، ولكن هذه سنّة الحياة .
الوداع .. الوداع ، لكل من حمل سنبلة أو وردة ، ليعطر ذكراي ، وينشر فوح البخور العدني ، كلما سنحت له نسائم الذكرى .
حامد السقاف
القاهرة – أيلول ٢٠١٧ م

أخبار ذات صلة

جار التحميل....

يستخدم موقع اليمن الاتحادي ملفات Cookies لضمان حصولك على افضل تجربة موافقة إقرأ المزيد