بلال الطيب
إنها مأرب، فاتحة المجد، وذروته، وأصل العهد، وصدقه، وزهرة الوصل، ورونقه، وروح اليمن، وقلبه النابض بالوطنية والحب، تصدرت بعد قرون من التيه والشتات المشهد، واستعادت مجدها الحضاري، وسجلت حضورها الزاهي، وقاومت التوغل الإمامي، وأعلنت ميلاد جمهوريتنا الثانية، الجمهورية التي بدونها ننتهي، وبها، وبمأرب – مبتدأ الحضارة ومنتهاها -أشهرنا ميلادنا الثاني.
القارئ لتاريخ مأرب الإسلامي، والحديث، والمعاصر، يجد أنَّها – وبسبب طبيعتها الصحراوية القاسية، وقلة عدد سكانها؛ كانت مُنفصلة عن مسارات أحداث اليمن المُتتابعة، وبعيدة عن تأثير الحكومات المركزية، ولم يأتِ المُؤرخون على ذكرها إلا لمامًا، حاولنا لم شتات ما ذكروه، وما حفظته الذاكرة الشفهية أيضاً، ونشر ذلك اختزالًا، خاصة ذلك المُتعلق بعلاقة أرض سبأ بدولة «الإمامة الزيدية»، وهي بمجملها صفحات مُشرفة، مليئة بالتمرد والرفض.
انتهت بتهدم سد مأرب «مملكة سبأ» العريقة «115ق.م»، وحضارتها الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وأعماق الأرض أيضاً، لتبدأ بعد ذلك سنوات – بل قرون – التيه والشتات، وقالت العرب في الأمثال: «تفرق أيدي سبأ، وأيادي سبأ»، وقال «الطبري» في تفسيره: «فغسان لحقوا بالشام، والأنصار بيثرب، وخزاعة لحقوا بتهامة، والأزد لحقوا بعُمان»، وقال آخرون أنْ الهجرات اليمنية وصلت إلى دول شمال أفريقيا.
كان انهيار سد مأرب – حسب توصيف عبدالله البردوني – فاصلًا بين الحضارة والا حضارة؛ وبين الاستقرار والهجرة، مُشيرًا إلى وجود عشرات الحلقات المفقودة من التاريخ اليمني – بين هذه الحالة الاستثنائية وتلك؛ وذلك لغياب الأحداث التي تفرض نفسها على الكتابة والتدوين، صار ذكر مأرب – تبعًا لذلك – محدودًا للغاية، وجاء وصفها في كتب الرحالة والمُؤرخين بالصحراء القاحلة، محدودة السكان، مصداقًا لقوله تعالى: «وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ».
أثناء غَوصي في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وتاريخ «الإمامة الزيدية» تحديدًا، لم أجد لمأرب ذكر إلا في مواضع محدودة، وهي بمجملها أحداث مبتورة، غير مُكتملة المعنى، صحيح أنَّها لم تعطِينا صورة شاملة للوضع، إلا أنَّها قدمت لنا صورة مُوجزة، وعناوين مُختزلة، يمكن الاستناد عليها، لتتضح تفاصيلها أكثر – حال ربطها بتاريخ اليمن ككل.
تعود علاقة أرض سبأ بدولة «الإمامة الزيدية» إلى العام «1027م»، أعلن حينها من «ناعط – ريدة» الحسن بن عبد الرحمن نفسه إمامًا، وذكر المؤرخون أنَّ ذات الإمام توجه عام دعوته إلى مأرب، ولم يتوسعوا في التفاصيل أكثر؛ بل ذكروا أنَّه حظي بتأييد الشيخ عبد المؤمن بن أسعد بن أبي الفتوح الخولاني، وأخوه المنصور، والشيخ يحيى بن أبي حاشد بن الضحاك، وأنَّه دخل بـ «10,000» مقاتل صنعاء.
بعد تلك الحادثة بـ «115» عامة جاء ذكر مأرب للمرة الثانية، لم يتوجه إليها هذه المرة أحد الأئمة؛ بل توجه إليها القاضي نشوان بن سعيد الحميري بعد أن اختلف مع الإمام أحمد بن سليمان، وبعد أن أوعز الأخير لأنصاره تشديد الخناق عليه، الأمر الذي جعله يُغادر بلدته حوث، وروى بعض المُؤرخين أنَّ أهل مأرب وبيحان ناصروه، ونصبوه ملكًا، إلا أنَّ سنوات حكمه وإقامته هناك لم تستمر طويلًا.
ثمة ارتباط وثيق بين مأرب وبيحان، ولا تذكر الأولى إلا وذكرت معها الأخيرة – خاصة في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وفي العام «1182م» عزم الإمام عبدالله بن حمزة – حفيد الإمام الحسن بن عبدالرحمن السابق ذكره – على ضمهما لدولته، وذلك بعد ثلاث سنوات من دعوته، وأرسل من براقش لذات الغرض جيشًا بقيادة الأمير سليمان بن حمزة، وقعت بين الأخير وبين أهل تلك البلاد حروب كثيرة، كانت الدائرة فيها على الأخيرين، وقيل أنْ الشيخ محمد بن أسعد المرادي كان أحد دعاته.
وحين امتنع أهل مأرب – بعد ذلك – عن الأذان بـ «حي على خير العمل» – كتب الإمام عبدالله بن حمزة إليهم عدة رسائل هددهم فيها بالعدول عن ذلك، ولم ينس في كل رسالة أن يذكرهم بفضائل أسرته، وأنَّهم أعلام الهدى، وأقمار الدجى، والأحق في الولاية، وقال في إحدى رسائله: «بلغنا أن أموركم على غير نظام، وأنَّكم ماضون على الخطبة لبني العباس، ولا تجوز الإمامة إلا لمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأضاف: «واعلموا أنا أولاد الرجل الصالح – صلى الله عليه – الذي شرع الشرائع، وسن هذه السنن، وأوضح رسوم العدل، وطمس رسوم الجور؛ فنحن أعلم الناس بآثاره، وسننه، وطرائقه، وعلومه، فلا تهلكوا أنفسكم بالجهالة والعمل على غير بصيرة.. واحمدو الله الذي أوصلكم وقتًا تقتدون في دينكم بعترة نبيكم، تأخذون الحق من أهله، وتقتبسون النور من معدنه، وتنتسبون إلى العترة الطاهرة التي خُلقت من طينة عليين، وربيت في حجور النبيين، ورضعت فيها دار الإسلام، وربيت في حجور الإيمان، ودرجت في منازل عمرها التنزيل، وخدمها جبريل، فأين تطلبون الهدى من غيرهم، فانظروا نظرًا يخلصكم».
وحين جاء كتاب علمائهم بالامتناع، وبقائهم على مذهب السنة، رد عليهم بكتاب آخر، انتقص فيه من الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهددهم بالحرب إن لم يتركوا مذهبهم، وأضاف: «فمن أجاب دعوتنا هذه العادلة غير الجائرة، الجامعة غير المفرقة، فهو منَّا وإلينا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن كره ذلك حاكمناه إلى الله سبحانه، وحاربناه، واستعنا بالله سبحانه عليه، فغلبناه إنْ شاء الله سبحانه، وإنَّما نحن نُقاتل هذه الأمة على تأويل كتاب الله، كما قاتل أبونا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تنزيله؛ لأنَّه حُطَّ بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، ونحن تراجمته وورثته، وعندنا معرفة غرائبه، وعلم عجائبه».
وبلغ من سخريته أن خاطب أهالي مأرب قائلًا: «وارضوا بنا أئمة، نرضكم لنا تبعًا»، وزاد على ذلك مُستهجنًا:
وهل تمت لكم أبدًا صلاة
إذا ما أنتم لم تذكرونا
وهل تجب الصلاة على أبيكم
كما تجب الصلاة على أبينا
وحين أذعن أهل مأرب لتهديداته، ارتجز قائلًا:
إذا بدت مثل السعالى من دغل
وطلعت فوق الرماح كالشعل
وأيقنوا أن الحِمام قد نزل
نادى مُناديهم على خير العمل
ووصل به الاستعلاء أنْ شبه نفسه بنبي الله سليمان بن داؤود، وقال في رسالة أخرى مُهددًا: «أقول لكم ما قال عمي سليمان – عليه السلام – لأوائلكم: ألا تعلوا علي وأتوني مُسلمين، وإن الإسلام لا يتم إلا بطاعة عترة خاتم المُرسلين.. وإن البغي بمعصية إمام الحق يحل سفك الدم، واستباحة المال، وهدم الديار على مذهبنا ومذهب آبائنا من أهل البيت عليهم السلام».
أذعن أهل مأرب لتهديداته، فيما أصر أهل بيحان على الامتناع، وفي ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «نهض الإمام بنفسه إلى أهل بيحان، بعد أنْ كرر الكتب إليهم يأمرهم بلزوم الطاعة، وإقامة الجمعة والجماعة، والأذان بحي على خير العمل، فلم يمتثلوا، واجتمعوا للمحاربة، ففرق الله شملهم، وأمر الإمام بقطع نخيلهم، وزروعهم، وعاد إلى براقش ظافرًا».
وحين خضعوا لحكمه مرة أخرى، كتب إليهم: «أما بعد.. فإنكم قوم وفقتم لإصابة الصواب، ومنحتم أفضل أسباب النجاة، وهو محبتكم ورثة الكتاب، وعترة الرسول سلام الله عليه وعلى آله، وقد بلغنا نصيحتكم، واستقامتكم، فاستقيموا واعلموا أن الله لا يضيع أجر المُحسنين، فأحسنوا، ونحن الصادقون، فكونوا مع الصادقين، ونحن حزب الله، وحزب الله هم المفلحون».
عادت «الإمامة الزيدية» بعد وفاة الإمام عبدالله بن حمزة لانكماشتها الاعتيادية «1217م»، لتعاود بعد «42» عامًا الظهور من جديد، وذلك بعد أنْ أعلن أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إمامًا، كانت «الدولة الرسولية» حينها تحت قيادة سلطانها الثاني «المُظفر» يوسف بن عُمر، تقوى خلال الأربع السنوات الأولى من حكم الأخير أمر الإمام الجديد، وسيطر على صنعاء ثلاث مرات، وحارب «الرسوليين»، وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مرة، رغم اعترافهم به حاكمـًا على «اليمن الأعلى».
كان لانضمام الأمير «الرسولي» المُتمرد أسد الدين محمد إلى صف ذلك الإمام أثره البالغ في ترجيح كفته، امتدت سيطرته إلى ذمار، وبيحان، وغزا مأرب بـ «1,400» مُقاتل، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم السني لبعض الوقت، والأذان بـ «حي على خير العمل»، وبمقتله علي يد بني عمومته «1269م»، لم تقم لـ «دولة الإمامة» قائمة لعدة سنوات.
صحيح أنَّ صلة دولة «الإمامة الزيدية» انقطعت بعد ذلك بأرض سبأ، إلا أنَّ علاقة «العلويين» – من أحفاد الإمام عبدالله بن حمزة – لم تنقطع بها بتاتًا، فبعد حوالي أربعة قرون أرسل حفيده حسين بن محمد بن ناصر «ابن القايفية» بأحد أولاده الأربعة ليستوطنها.
حسين الذي التصق به لقب «ابن القايفية» – نسبة إلى أخواله من قبيلة «قيفة – رداع» الذين تربى بعد وفاة أبيه في كنفهم، كان مُقاتلًا مشهورًا، حارب الأتراك أثناء تواجدهم الأول في اليمن، وألصقت به الذاكرة الشفهية بُطولات خارقة، منها أنَّه اجتاح مسنودًا بأصهاره «الياميين» صنعاء، وجعل أحد أبنائه حاكمًا عليها، وهي معلومة لم أجد لها ذكر في المَراجع التاريخية التي وثقت لأحداث تلك الفترة.
وأفادت الذاكرة الشفهية أيضاً أنَّ الأتراك نجحوا في القضاء على ذلك التمرد، وأنَّ «ابن القايفية» العاشق للسفر والترحال – عمل على مد نفوذه إلى المناطق البعيدة عن سيطرة «الدولة العثمانية»، فأرسل بولده خالد إلى مأرب، وأرسل – أيضاً – بولده مُقبل إلى بيحان، وولده أحمد إلى حريب، وولده صالح إلى الجوف، وإلى هؤلاء الأربعة ينتسب «علويو» تلك المناطق، ومع مرور الوقت انقطعت صلتهم بالمذهب «الزيدي»، واعتنقوا المذهب «الشافعي» – مذهب أبناء تلك النواحي، وكانت علاقتهم بمحيطهم شبه جيدة.
بعد خمس سنوات من خروج الأتراك من اليمن، وتصدر «الدولة القاسمية» المشهد، أسس خالد بن حسين دويلته – أو مشيخته الصغيرة إن صح التعبير – في مأرب «1640م»، وتوارث أحفاده حكمها، وهم من عُرفوا بـ «آل خالد»، وكان قد اشترى أول وصوله المنطقة أراضي شاسعة مُجاورة للسد القديم من «آل عامر السبئي» – سكان مأرب الأصليين، واستقدم معه – كما أفاد أحد أحفاده – أفراد من قبيلة «عبيدة» من جبال «السراة» في عسير، واستوطن الأخيرون شرق المدينة في وادي «أبراد»، وتولوا حمايتها، والراجح أنَّ «العبيديون» – كما أفاد أحد مشايخهم للرحالة نزيه مؤيد العظم – من سكان مأرب الأصليين، ومن سلالة صافر القحطاني تحديدًا.
بعد عامين من تولي «المتوكل» إسماعيل بن القاسم – ثالث أئمة «الدولة القاسمية» – الحكم، وبعد أنْ امتدت حدود دولته من عسير شمالًا، إلى عدن جنوبًا، عزم على مد سيطرته إلى المناطق الشمالية الشرقية «1648م»، في البدء سقطت الجوف، فيما استعصت مأرب – نجح مُقاتلو الأخيرة المُتمرسين في جر القوات الإمامية إلى كمائن مُتقنة، وكادت الصحراء القاحلة أنْ تفتك بها؛ لولا قيام بعض الأسرى البدو في إرشادها إلى طريق الهروب الصحيح.
عاد الأمير أحمد بن الحسن – قائد تلك القوات – إلى عمه الإمام يجر أذيال الخيبة، ليعاود بعد «12» عامًا المُرور من ذات المنطقة، دون أنْ يُفكر في السيطرة عليها؛ فوجهته هذه المرة كانت بلاد حضرموت، تاهت قواته مرة أخرى في صحراء مأرب، ونجى وإياها من الموت بأعجوبة، لتتحقق له بعد عامين، وبعد أنْ تم تعزيزه بجيش آخر من طريق رداع – السيطرة التامة على حضرموت، وذلك بعد حروب وخطوب يطول شرحها، وهي سيطرة لم تدم سوى «23» عامًا.
بعث الأمير أحمد بن الحسن لعمه الإمام إسماعيل برساله شارحة، ذكر فيها العراقيل التي اعترضت طريقة، نقتطف منها: «فما زال القتل الذريع فيهم – يقصد ابناء حضرموت – والأسر، واحتزت رؤوس كثيرة، لم نحص معرفة حصرها حال الكتاب، واشتغل الناس بالغنائم لأموالهم، وسلاحهم، وخيلهم، وانكسر السلطان – يقصد السلطان بدر بن عبدالله الكثيري – وأولاده وأعوانه.. وقد أحببنا تعجيل هذه المسرة إليكم، والتفريج عليكم لما نعلمه من اشتغالكم بنا، وبمن لدينا من المُجاهدين، سيما بعد انقطاع الكتب بسبب الأعداء المُتوسطين المترصدين».
في بداية العام «1763م»، وبعد أن انكمشت خارطة الإمامة، وصلت إلى اليمن بعثة دنماركية برئاسة المهندس كارستن نيبور، وهو عالم ألماني مُتخصص في الرياضيات، والفلك، والجغرافيا، نقل في مُذكراته تفاصيل مهمة عن أحوال اليمن خلال تلك الحقبة، وذكر في معرض حديثه مأرب تلميحًا، وعدها من المناطق المُستقلة عن حكم «الدولة القاسمية»، وقال عنها: «هي الآن مقر شريف فقير لا يمتد حكمه خارجها إلا إلى عدد محدود من القرى».
وتأكيدًا لذلك، قام نيبور برسم أول خارطة جزئية لليمن، توفر فيها قدر كبير من الدقة، وضع حدودها من «المخا، والحجرية» جنوبًا، و«اللحية، وعفار، وبيت ادهم» شمالًا، و«ذيبان، وذمار، ويريم» شرقًا، وأسماها بـ «مملكة الإمام» – يقصد الإمام «المهدي» عباس بن «المنصور» القاسم.
تعاقب على حكم مأرب أحفاد الأمير خالد بن حسين، ليقوم حفيده أحمد بن علوي بتأسيس «إمارة مأرب»، جاعلًا من مأرب القديمة عاصمة له، عقد التحالفات مع القبائل المُجاورة التي كان معظمها من «البدو الرحل»، واتجه بعلاقته صوب حضرموت شرقًا، وبيحان جنوبًا، واستقدم القضاة من «آل اليوسفي» من «جردان – شبوة»، ليعمل الأخيرون على تعزيز حضور دويلته الوليدة إداريًا، كما عمل على اصطلاح بعض الأراضي، وتشجيع الناس للقدوم إلى مأرب، والعمل فيها، وأعطى التجار الحماية، وانشأ سوقًا خاصًا بهم، وبذلك صارت مأرب الصحراوية المحدودة السكان شبه آمنة، يسودها بعض الاستقرار.
ذكر الباحث سالم محمد حسان في دراسة له عن تاريخ مأرب الحديث، واعتمادًا على الذاكرة الشفهية، أنَّ الحكام من «آل خالد» كانوا قبل الأمير أحمد بن علوي يتلقون دعمًا محدودًا من قبل أئمة صنعاء، وأنْ ذلك الدعم توقف بفعل الصراع بين الإماميين أنفسهم، وهو الأمر الذي حفز ذات الأمير – كما أفاد ذات الباحث – على الاستقلال عن «الدولة القاسمية»، وهي معلومة لم أجد لها ذكر في المراجع التاريخية التي وثقت لتاريخ تلك الدولة، مع العلم أنَّ الأئمة عبر تاريخهم الطويل كانوا يأخذون ولا يعطون، وتركيزهم انصب أصلًا على أراضي اليمن الخصبة التي تدر عليهم وعلى أنصارهم الأموال الطائلة.
بعد وفاة الأمير أحمد بن علوي آل الأمر لولده محسن، وقد سار الأخير على نهج والده، ليؤول الأمر بعد وفاة الأخير لولده الوحيد عبدالرحمن، وكان عهد هذا الأمير – كما أفاد الباحث حسان – من أزهى عصور الإمارة، حكمها لأكثر من أربعة عقود، وامتدت سلطاته من منطقة «رغوان – الجوف»، إلى «بيحان – شبوة»، وكانت علاقته جيدة مع قبائل «العوالق، والرصاص، وبالحارث، ويافع، ونهد، والكرب»، وذكر المؤرخ الحضرمي سالم الكندي في كتابه «العدة المفيدة» أنَّه عقد عام «1846م» حلفًا مع «الكثيريين».
كما أنَّه – أي الأمير عبدالرحمن – كان من جُملة مُستقبلي الوالي العثماني أحمد مختار باشا أثناء دخوله صنعاء «1872م»، وقد جعله الأخير حاكمًا على مأرب، وأعطاه راتب شهري مقداره «100» ليرة ذهبية، ورواتب أخرى لأثنى عشر شيخًا من ذات المنطقة – من «20» إلى «25» ليرة، وقد استفاد من تلك العلاقة في تطوير إمارته.
زار مأرب خلال تلك الحقبة عدد من الرحالة الأجانب، صحيح أنَّ رحلات هؤلاء كانت استكشافية أثرية في الأساس، إلا أنَّهم نقلوا لنا جانبًا من تاريخ الإمارة، وعلاقتها بمحيطها، وفي بداية حكم الأمير عبدالرحمن زار الرحالة الفرنسي جوزيف توماس أرنو المنطقة «1843م»، والتقى ذات الأمير، ونقل تفاصيل رحلته المأساوية فيما بعد، وإليه يعود الفضل في تعريف العالم بجانب من تاريخ حضارة سبأ في القرن الخامس قبل الميلاد، بعد أن قام بترجمة «نقش النصر» الرابض في معبد «ألمقة» الكبير بصرواح.
وفي «فبراير» من العام «1870م» زار مأرب مُتنكرًا المُستشرق اليهودي جوزيف هاليفي، أشاد الأخير بقبيلة «عبيدة» على عكس أرنو، وأسمى رفيق رحلته حبشوش الأمير عبدالرحمن بـ «الجزار»، دون أن يذكر سببًا للتسمية، وكانت وفاة ذات الأمير عام «1889م»، بالتزامن مع زيارة الرحالة أدورد جلازر – المدعوم من قبل «الدولة العثمانية».
دانت مأرب لسلطات «الدولة العثمانية» إسميًا، وحين تولى الإمام يحيى حميدالدين الإمامة بعد وفاة أبيه «1904م»، حاول استمالة مشايخ وأعيان اليمن إلى صفه ضد الأتراك، وراسل الأمير عبدالرحمن بن حسين – حفيد الأمير السابق ذكره – لذات الغرض، إلا أن الأخير رفض طلبه، وحين دخل الإمام يحيى بعد «14» عامًا صنعاء، ذهب ذات الأمير إليه للتهنئة، ورفض الانضمام مرة أخرى لدولة الإمامة الجديدة.
بدأ الإمام يحيى بعد ذلك بمد نفوذه جنوبًا، وغربًا، ليعقد أبناء مأرب والجوف حلفًا قبليًا لمواجهة أي توغل إمامي قادم إلى جهتهم، ودخل في ذلك الاتفاق «أمير بيحان» الهبيلي، وكان ذلك الحلف بقيادة المشايخ من «آل الشايف»، وبالتزامن مع حروب الإمام التوسعية كان لزامًا على المُناهضين لحكم الإمامة في المناطق الأخرى أن يغادروا اليمن عبر بوابة مأرب.
لم تكن مأرب ذات الطبيعة الجغرافية القاسية، والمحدودة السكان تحمل أي أهمية للإمام يحيى؛ ولهذا فإنه لم يوجه قواته إليها إلا بعد أن أتم سيطرته على المناطق الخصبة والهامة في وسط اليمن وغربها، وبعد أن دب الخلاف بين «آل خالد» أنفسهم، واستنجد به بعضهم، وقد كلف «أمير ذمار» عبدالله بن علي الوزير لذات المهمة، لتتحقق للأخير السيطرة على معظم مناطقها في العام «1931م».
رضخ معظم أعيان مأرب للأمر الواقع، وسلموا رهائن الطاعة، بعد أن اتخذ الإمام يحيى سياسة الملاينة لاستقطابهم، فيما رفض الشيخ علي بن معيلي من قبيلة «عبيدة»، والشيخان علي بن حسين البحري، وعلي بن ناصر القردعي من قبيلة «مراد» الدخول في حضيرة الدولة الإمامية، قاوموا توغلها مُتفرقين، ولمدة عامين، وألقت القوات الإمامية في النهاية القبض عليهم، وأطلق عليهم الإمام اسم «الخوارج»، وضاعف عليهم وعلى رعاياهم الزكاة، وأجبرهم على تقديم رهائن الطاعة أسوة بغيرهم.
وفي حريب المجاورة قام الأهالي الغاضبين من مضاعفة الزكاة عليهم باغتيال عاملهم أحمد بن يحيى الكحلاني، بعد أن رفض الإمام الاستماع لشكواهم، وفي ثورة «فبراير 1948م» شارك الشيخ علي القردعي – الذي أسرته القوات الإمامية أثناء تصديه لها في منطقة «الجوبة»، وتعرض للسجن والإذلال – في تلك الثورة الدستورية، وكُلف بالمهمة الصعبة، مهمة اغتيال الإمام يحيى.
وفي العام «1957م» قامت قبائل صرواح بتمرد مسلح ضد حكم الإمام أحمد حميد الدين، إلا أنَّه فشل، وبعد ثورة «26 سبتمبر 1962م» ظلت سيطرة النظام الجمهوري على مأرب مُتقطعة، ولم تتحقق السيطرة عليها إلا نهاية العام «1968م».
بعد «46» عامًا من عودة مأرب لأحضان الجمهورية، عادت «الإمامة الزيدية» لتُكشر عن أنيابها من جديد، وبدأت جحافلها المُتوحشة قفزاتها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وبحلول العام «2015م» وصل الحوثيون إلى تخوم مأرب، ودارت مُواجهات شرسة استمرت لعدة أسابيع، تمكن فيها المأربيون – رغم قلة عددهم – من الدفاع عن عاصمتهم، وعن جمهوريتهم، بعد أنْ اختاروا بعناية فائقة أماكن المواجهة بعيدًا عن المناطق المأهولة بالسكان، وهي من عُرفت بـ «المطارح».
في الوقت التي سقط فيه المدن اليمنية تباعًا، كانت تلك «المطارح» حائط الصد المنيع الذي حمى مأرب والجمهورية من السقوط، تداعى إليها المأربيون، وسطروا فيها ملاحمهم البطولية، وأجبروا الحوثيين على المغادرة، ولم ينتصف ذلك العام إلا ومشارف المدينة السبئية مُحررة، ليتوافد إليها اليمنيون الجمهوريون المناوئين للحوثي من كل حدب وصوب، باذلين أرواحهم في تحرير ما تبقى من أرض، مُساهمين في نهضة المدينة، مُشهرين ميلاد جمهوريتهم الثانية، مُجددين العزم على القضاء على الحكم الإمامي الكهنوتي، وطي صفحته وإلى الأبد.