في الوقت الذي تترنح فيه سلطات العراق ولبنان وتتعثر تحت وطأة موجات الاحتجاج الشعبي العارمة، تسعى فصائل شيعية موالية لإيران لإخماد اضطرابات سياسية تمثل تحديا للنفوذ الإيراني المترسخ في البلدين.
في لبنان استقال رئيس الوزراء سعد الحريري، وفي العراق دفعت الضغوط حكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي الى شفا الانهيار.
كلتا الحكومتين تحظيان بدعم الغرب، لكنهما تعوِّلان أيضا على تأييد أحزاب سياسية مرتبطة بجماعات شيعية قوية مسلحة مدعومة من إيران مما أبقى حلفاء لطهران في مناصب رئيسية.
وتفجرت الاحتجاجات الشعبية في البلدين بعد تنامي النفوذ الإيراني بقوة بين الطوائف الشيعية في أنحاء الشرق الأوسط منذ شكلت طهران جماعة حزب الله بلبنان عام 1982 ومنذ الإطاحة بصدام حسين في العراق عام 2003.
كلا العراق ولبنان لديه نظام حكومي يهدف لوأد أي نزاع طائفي من خلال ضمان مشاركة مختلف الأطياف في السلطة.
وكلا البلدين به جماعات شيعية بارزة ترتبط بقوة بإيران وتحمل السلاح رغم أنها ليست طرفا في أجهزة الأمن الرسمية.
يناوئ المحتجون الآن هياكل القوى هذه التي يحمِّلها العراقيون واللبنانيون مسؤولية الفساد وتردي حالة الخدمات العامة وإهدار الثروات الوطنية التي يستخلصها العراق من النفط ولبنان من الدعم الأجنبي.
من يقف وراء الاحتجاجات؟
في كلا البلدين، حيث هيمنت من قبل أحزاب طائفية على المشهد السياسي، لم يأت معظم المحتجين من حركات منظمة ولم تربطهم بها أي صلة.
في كلا البلدين كان المحتجون يطالبون بنوع التغيير الكاسح الذي حملته رياح انتفاضات 2011 في العالم العربي وأسقطت أربعة زعماء لكنها تجاوزت حينها لبنان والعراق.
في لبنان، ثار المتظاهرون في أواخر سبتمبر أيلول على الأوضاع الاقتصادية في وقت يكابد فيه بلدهم أزمة مالية طاحنة.
وتفجرت مظاهرات على مستوى البلاد بعد ذلك بأسبوعين احتجاجا على خطط حكومية لفرض رسوم جديدة على المكالمات عبر التطبيقات المتداولة على الهواتف المحمولة مثل تطبيق واتساب.
وفي العراق، بدأت المظاهرات في بغداد وسرعان ما انتشرت إلى الجنوب، معقل الشيعة.
أين الخطر؟
في العراق، خرجت الاحتجاجات على نطاق لم يحدث منذ الإطاحة بصدام وسط مطالبات عاتية بالتغيير.
وردت السلطات بحملة عنيفة خلَّفت أكثر من 250 قتيلا سقط معظمهم برصاص قناصة (ميلشيات شيعية موالية لايران) كانوا يطلقون النار على الحشود من أسطح البنايات.
قال ريناد منصور محلل الشؤون العراقية في مؤسسة تشاتام هاوس في لندن ”مجرد رؤية احتشاد بهذا النطاق يجعل الاحتجاجات أشد خطورة في نظر النخبة السياسية“.
وقال “إن الفصائل المدعومة من إيران في الأساس تعتبر الاحتجاجات الشعبية خطرا يتهدد ذلك النظام السياسي”.
في لبنان، جاءت المظاهرات في وقت أزمة سياسية يراها كثيرون الأسوأ منذ الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد من عام 1975 إلى 1990.
وإن حدث وأطالت استقالة الحريري أمد الشلل السياسي فإن ذلك سيقوض احتمالات تمويلات الدعم المقدمة من حكومات غربية وخليجية.
كيف رد حلفاء إيران؟
في البداية خاطب زعيم جماعة حزب الله، حسن نصر الله، المحتجين مبديا تعاطفه، ومرددا لهجة تصالحية تحدث بها الحريري. لكن مع توسع الاحتجاجات الدفة تغيرت واتهم قوى أجنبية بإثارة الفتن.
وأقدم أناس موالون لحزب الله وحركة أمل الشيعية على مهاجمة مخيم احتجاج في بيروت وهدموه.
وأعلن الحريري استقالته بعد ذلك بقليل رغم ضغوط حزب الله، الذي يعتبره الكثيرون أقوى عنصر فاعل بلبنان، كي لا يذعن رئيس الوزراء لضغط الاحتجاجات.
وفي غياب أي بديل واضح للحريري، يجد حزب الله الواقع تحت عقوبات أمريكية نفسه أمام معضلة.
فرغم أن الجماعة لديها مع حلفائها أغلبية برلمانية، يتعذر عليهم تشكيل حكومة بذاتهم لأنهم سيواجهون حينها عزلة دولية حسبما قال نبيل بومنصف المعلق بصحيفة النهار اللبنانية.
ويضيف “إن تلك ستكون أسرع وصفة للانهيار المالي، إذ سيغلق العالم كله الباب أمامهم”.
وفي بغداد، أفلتت حكومة عبد المهدي من السقوط للوقت الراهن بعد تدخل إيراني فيما يبدو.
وأوردت “رويترز” تقريرا هذا الأسبوع ذكرت فيه أن قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني المسؤول عن رعاية الحلفاء في الخارج زار بغداد وعقد اجتماعا سريا وافقت فيه جماعة شيعية قوية على الإبقاء على رئيس الوزراء في منصبه.
وكان مسؤولون أمنيون عراقيون قد قالوا إن فصائل مرتبطة بإيران هي التي نشرت القناصة الذين أطلقوا النار على الحشود من أسطح المباني الشهر الماضي.
ما حدود النفوذ الإيراني؟
رغم أن قوى الفصائل الشيعية لا تحظى إلا بقدر محدود من السلطة، فإن ثقل إيران السياسي يتشعب من وراء الكواليس.
فاتفاق المشاركة في السلطة القائم منذ فترة طويلة في لبنان يجعل من المستحيل على أي جماعة أو طائفة أن تهيمن بمفردها على مؤسسات الدولة.
فحزب الله، مع كل عزوته، اختار ثلاثة وزراء فقط في حكومة الحريري السابقة.
قال نديم حوري المدير التنفيذي لمبادرة الإصلاح العربي إن مفهوم الفائز الذي يحصد كل شيء غير قابل للتطبيق بلبنان، مشيرا إلى أن حزب الله ربما أخطأ في حساباته عندما لجأ لأسلوب الترهيب مع المحتجين.
وتابع إن هذا يتعارض تماما مع ثوابت السياسة اللبنانية وإن حزب الله سيلجأ حتما للحلول الوسط.
وقال علي فائز مدير برنامج إيران بمجموعة الأزمات إن نفوذ طهران في العراق ”أكبر منه في أي دولة أخرى… لكنها لا تملك السيطرة على ما يجري هناك“.
ما رد الفعل الدولي؟
في العراق، من السابق لأوانه تحديد ذلك.
فالولايات المتحدة، خصم إيران الرئيسي، تلزم حتى الآن الصمت إلى حد كبير إزاء الاحتجاجات، ربما انتظارا لرؤية النتيجة.
وفي لبنان، الذي يلزمه التمويل الخارجي للحفاظ على اقتصاده من الانهيار، استخدم خصوم طهران الدوليون سطوتهم المالية لتحدي نفوذها بقدر أكبر من المباشرة.
وأخفق الحريري قبل استقالته في إقناع المانحين الأجانب بتقديم معونات بحجم 11 مليار دولار تعهدوا بها العام الماضي، وذلك لأسباب منها سطوة جماعة حزب الله.
ولطالما قدمت دول عربية خليجية تخوض حروبا بالوكالة مع إيران في مناطق متفرقة من المنطقة تمويلا للبنان، لكن السعودية خفضت دعمها بشدة قبل ثلاث سنوات قائلة إن حزب الله ”خطف“ الدولة اللبنانية.
ونسقت دول عربية خليجية والولايات المتحدة الخطى في مواجهة أهداف مرتبطة بإيران وفرضت عقوبات على 25 من المؤسسات والبنوك والأفراد على صلة بالدعم الإيراني لشبكات مسلحة تشمل حزب الله.
وقال مصدر خليجي إن الدول العربية الخليجية مقيدة بعقوبات، وحزب الله جزء لا يتجزأ من الحكومة اللبنانية. وأضاف إن أحدا لم يتخل عن لبنان لكن النظام يتداعى والأمر يتطلب رؤية تحسن على عدة أصعدة منها النظام المالي.
بينما قال مسؤولان أمريكيان الأسبوع الماضي إن إدارة الرئيس دونالد ترامب جمدت معونة أمنية قدرها 105 ملايين دولار للبنان.