*عزالدين سعيد الأصبحى:
**ما يجرى من حولنا أكثر من مجرد صدام مسلح، أو معركة عابرة، إنها محطة لصنع معالم جديدة فى جسد المنطقة المنهك. وصار العالم بعد غزة غيره قبلها، ابتداءً من مفهومنا لمنظومة القيم الإنسانية وحقائق القانون الدولى التى ضُرب بها عرض الحائط، وانتهاءً بالاصطفاف الدولى والإقليمى، حيث صار العالم يتشكل بعد غزة من جديد، وسنرى الكثير من تغيرات المشهد إقليميا ودوليا خلال الأشهر اللاحقة. ما يمكن وصفه بتغييرات إستراتيجية على مستوى حضور القضية الفلسطينية برمتها، وخريطة الوجود والسيطرة الإستراتيجية على هذه الجغرافيا الأكثر أهمية فى صراع المصالح الدولية، (وعن هذه النقاط هناك الكثير مما كُشف ومما لايزال يتكشف).
واليقين الراسخ لدى الناس أن كل هذا الحشد من حولنا لا يمكن أن يكون لأجل غزة ومحاربة حماس. فأمريكا بطاقمها الرئيسى، من رئيس الدولة إلى وزير دبلوماسيتها، إلى وزير حربها، تركوا بيتها الأبيض وجاءوا للمنطقة، وأوروبا نسيت اوكرانيتها، وحشدت كل خطابات الحروب المقدسة وأعادت بوصلتها صوب المشرق، فالأمر أكبر من معركة خاطفة، إلى اختطاف منطقة!
والصورة العامة مع ظهور تفاصيلها، تشتد قتامة لا بهاء، والوجع يسرى فى كل الأمة. لا شيء غير غضب الشارع الذى لا يجد متنفسا له، فيلجأ لأناشيد الزمن القديم، والسير بشوارع مكتظة لتحطيم المقاهى وواجهات المحلات، وقادة العالم ينتظرون فرج الله!. محطة صعبة تشبه بعض سابقاتها، فى تاريخ منطقة لها مع الأوجاع قصة عمر حزين، مثل ضربة حزيران ١٩٦٧، واجتياح بيروت ١٩٨٢، وغزو الكويت ١٩٩٠ بتداعيات حرب الخليج الأولى والثانية. وهاهى حرب غزة تنضم للقائمة، فلا اسم للكارثة التى تعم المنطقة العربية كلها الآن غير حرب غزة !. حتى نعثر على مسمى!.
وفى كل ما سبق خرجت الأمة العربية تعانى شروخا وانقساما موجعا من حزيران سيناء، إلى حزيران بيروت، وحتى أغسطس الكويت، ماعاد الجسد العربى واحداً يتداعى بالسهر والحمى إذا أصاب عضو فيه مكروه!. انتشر فيه الوجع بكل مفاصله حيث غدى صوت الأنين نشيد الوحدة الباقية ! .ورغم ما نقول عن الأمل وأنه ( هو الخيط الذى يخرجنا من حفرة الموت، نحو فضاء الحياة بدونه نبقى فى تلك الحفرة).
لكن الحفرة زاد عمقها مع خيبات الزمن المتكررة!.
وشاخت فينا أمور كثيرة، وهرمت فينا الجبال والبحار والاحزاب، وما رحل عنا العابرون وثقلاء الظل، وما كانوا للرحيل أوفياء، رغم إنًا لنسيانهم مخلصون. ونحن أخلصنا للنسيان لكن لا أحد يرحل غير الطيبين والبسطاء وأبناء السبيل، أما الغزاة العابرون فبقوا طواغيت على صدور الناس. ورغم أنه لا صداقات بين الحكومات، كون الزمن علمنا أن كل ما بينها عداوات مؤجلة، إلا فى هذا المكان الملغوم بمشاحنات العشائر منذ غدر جساس وكليب والزير سالم وحكايات الجليلة وأبو ليلى المهلهل، إلى عواصف التحالفات التى لا تنتهى وليس آخرها عاصفة غزة.
وها نحن عثرنا على مسمى أقرب لما يجرى كونه عاصفة، فلنقل عن الخراب القائم (عاصفة غزة). فما يجرى فى هذا القطاع تتجاوز آثاره رقعته الجغرافية المحدودة، ليصل إلى قارات أخرى مشكلا على مايبدو مرحلة تاريخية جديدة، ستكون اسمها ما بعد عاصفة غزة. غزة التى تضيق بساكنيها ووجعها ويريد الكيان الإسرائيلى أن يحيلها ركاما دون ذاكرة. ولكنها جزء من أرض مباركة، يخرج من بين مفاصل صخرها أطفال، هم كبار هذه الأمة.
سندرك أن النصيحة هى الا نترك العاصفة تعصف بما تبقى منا، ولا نقف فى منطقة الحيرة واللاقرار، فتلك مهلكة لا حكمة، يقول ذلك التاريخ المخضب بالوجع لا نحن. لكنّا أوفياء للنسيان والعناد وثارات القبيلة، فننشغل بصغار أمورنا، ونجد التاريخ مر مقهورا بيننا، وكان له أن يمضى متوجا بالمجد إذا أعطينا للعقل فرصته. لكنا لانعمل بالنصيحة فى وقتها، بل ندركها بعد فوات الأوان، وتلك عادة أصيلة متوارثة منذ سيل العرم إلى عاصفة الصحراء، فنسمى ما يحدث لنا مأزقا سياسيا لا كارثة، فلا نخرج منه إلا لمتاهة جديدة أشد وأنكى. فنحن لا نقدِّر الوصايا إلا بقدوم خريف العمر، وندرك حينها أنه يصعب تصحيح الأخطاء مثلما يستحيل جبر الكسور.
*سفير بلادنا لدى المغرب الشقيق
** نقلا عن جريدة الاهرام المصرية